في مدينة مرسيَّة الأندلسية، ومن أسرة متدينة متصوفة، وُلد محمد بن علي الحاتمي المعروف بـ»ابن عربي»، عام 1164م، كان والده فقيهاً، وعُرف عنه الزهد والتصوف، وقد حرص على تلقين ابنه علوم الدين منذ الصغر، فحفظ القرآن، ودرس الفقه والحديث.
اشتغل والده في بلاط سلطان الموحدين في إشبيلية، أبو يعقوب يوسف الأول، وهناك ترعرع «ابن عربي» وتلقى تدريباً عسكرياً، وما أن بلغ الرشد حتى تولى منصب نائب حاكم إشبيلية. كانت حياته شبه مثالية: رب أسرة، وميسور الحال، ورجل دين محترم، وصاحب مكانة مرموقة.. وفي العقد الثاني من عمره دخل إلى عالم الروحانيات، فانقطع عن الدنيا واعتزل الناس، وقرأ كتب المتصوفين والحكماء والفلاسفة، لكنه ظل مسكوناً بهاجس الرحيل، فتنقل ما بين مكة، والطائف، والموصل، وحلب، وأرمينيا، وقونية، والقاهرة، وبغداد حيث التقى الصوفيَّ المعروف «السهروردي».
طوال ترحاله الذي دام قرابة 23 عاماً لم يحمل معه في قلبه سوى «نظام»، حبيبته ومُلهمته التي كتب في مدحها «ترجمان الأشواق». وكان قد التقاها عندما زار مكة، وهي كريمة إمام الحرم، الشيخ الفارسي ابن رستم الأصفهاني، ورأى فيها وجهاً حسناً وروحاً مشرقة وعقلاً نيراً.. فتنته حتى اعتبرها رمزاً طاهراً للحكمة الخالدة، وبعد زواجهما، ساهمت «نظام» في تنقية سريرته وتصفية حياته الروحية.
حط رحاله أخيراً في دمشق، واستقر فيها بقية حياته، وكان أميرها واحداً من تلامذته المؤمنين بعلمه والمتبعين لتعاليمه. وعاش فيها مُعلماً وفقيهاً، ولقّب بـ»الشيخ الأكبر»، و»سلطان العارفين»، وكان له مجلس يقصده طلاب العلم من كافة الأنحاء، ومن أبرزهم جلال الدين الرومي المعروف باسم «مولانا».. توفي عام 1240م، ودُفن في جبل قاسيون.
بقي من مؤلفاته أقل من 100 مجلد في الشعر والفلسفة والتصوف والفقه، وأشهرها «الفتوحات المكية» وهو كتاب تضمن آراءه الصوفية ومبادئه الروحية، و»تفسير ابن عربي» الذي ضم تفسيراً للقرآن وشرحاً لمعانيه، و»اليقين والإعلام بإشارات أهل الإلهام»، و»شجرة الكون» وغيرها، وقد تُرجمت أعماله إلى اللغات الفارسية والتركية والأردية.
كانت مقولاته وشعره وفلسفته مثار جدل، فمن أحبوه وآمنوا به اعتبروه ملهم المتصوفة، وشيخ العارفين، ومن أولياء الله الصالحين، بينما رآه بعض الفقهاء كافراً زنديقاً وضالاً ومضللاً، ومنهم «ابن العز عبد السلام» الذي وصفه: «شيخ سوء وكذاب»، و»ابن تيمية» و»ابن القيم»، اللذان وصفاه بالزنديق، و»الذهبي» الذي قال عن عرفان بن عربي: «فوالله لأن يعيش المسلم جاهلاً خلف البقر، لا يعرف من العلم شيئاً سوى سورة من القرآن، يصلي بها الصلوات، خير له بكثير من هذا العرفان».
وقد خص بعض الفقهاء مؤلفات عديدة تبين كفر «ابن عربي»، ومنهم «برهان الدين البقاعي»، في كتابه «تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي»، كما كتب «ابن نور الدين» مجلداً في الرد على «ابن عربي» سمّاه: «كشف الظلمة عن هذه الأمة»، وكذلك كفّره «شهاب الدين التلمساني»، و»سيف الدين بن بلبان»، و»قطب الدين بن العسقلاني» ، و»القاضي زيد الدين الكتاني»، الذي شبّه أقواله بأقوال المجانين، والقاضي «سعد الدين الحارثي»، الذي وصف مقولاته بالضلالة والزندقة، وغيرهم.
تبنّى ابن عربي «عقيدة «وحدة الوجود»، وقال: «ما في الوجود إلا الله»، و»أنّ جميع ما يُدرك بالحواس هو مظهر لله تعالى»، و»العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء».. وغيرها من المقولات التي اعتبرها الكثير من الفقهاء كفراً، لأنها لا ترى فرقاً بين الخالق والمخلوق، بل كل موجود هو الخالق، كما رأوا أن مقولات «ابن عربي» بوحدة الوجود تقود إلى اعتقاد بسقوط وجوب عبادة الخالق، لأنه بحسب فهمهم لمقولته: «العابد هو المعبود»، و»الشاكر هو المشكور».
كما كفّره الفقهاء لقوله بوحدة الأديان، واعتقاده بأن العالم كله هو عين ذات الله تعالى، فقال: «تستوي الأديان كلها لأنها تشترك في الجوهر، وبالتالي فإن تعدد الأديان والمذاهب هو تعدد للوسائل التي توصل الإنسان لغاية واحدة هي عبادة إله واحد».
ظهر «ابن عربي» أواخر العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، حيث ازدهرت الفلسفة والأفكار العقلانية وعلم الكلام، وكانت بغداد والأندلس ساحات للحراك الفكري والتيارات العقلية الجدلية، وقد برزت في تلك الحقبة كوكبة من أعلام الفكر مثل الراوندي وابن طفيل وابن رشد والرازي، وعدد من المتصوفة مثل الحلاج والسهروردي والرومي وغيرهم، وقد تأثرت فلسفة «ابن عربي» بهؤلاء جميعا، وخاصة بنظرية الأشاعرة في (الجوهر والأعراض)، وبنظرية الحلاج القائلة إنَّ الناسوت هو المظهر الخارجي للاهوت، كما تأثر بنظرية أفلاطون في (الواحد والكثير).
حاول التوفيق بين تصورين مختلفين للألوهية: تصور الإله الميتافيزيقي المجرد من الصفات المشخصة، وإله الأديان الذي له هذه الصفات، لكنه ظل مؤمناً بوجود إله، هو أصل كل موجود، وهو وحده الغني على الإطلاق، وكل موجود يفتقر إليه، وظل متشبثاً بعبادته وحبه والتقرب إليه، بعاطفة دينية متقدة. لكنه بذلك هدم فكرة السببية الطبيعية ليقيم مقامها السببية الإلهية؛ إذ الحق وحده هو الفاعل لكل شيء، وهو وحده الذي يمد الموجودات بما تفتقر إليه من حاجات، ومن خلال نظريته في «وحدة الوجود»، ثار على سائر المفاهيم الدينية التي كانت سائدة آنذاك، كالخلق وكالربوبية والعبودية والألوهية وصفات الله.. وقدمها في صور جديدة غير مسبوقة.
قد نتفق مع فكر «ابن عربي» أو نختلف معه، إلا أنه سيبقى رمزاً للفكر الإنساني المتجدد، ومن أشجع دعاة الحرية ونشر الحب والمحبة والإخاء والتسامح والمساواة والترفع عن كل أشكال التعصب الديني والمذهبي.. فقد تركزت فلسفته على الواجبات والمسؤوليات التي يتقاسمها كل البشر روحياً وأخلاقياً وفكرياً، لا على ما يُفرّقهم؛ لذا يمكن اعتباره مصدر إلهام لتشكيل حضارة عالمية إنسانية أخلاقية.
وأهم ما مثله فكره: دعوته لوحدة الأديان، ونبذه الطائفية، ونظرته للإله نظرة حب وعشق مجرد، لا نظرة خوف وطمع، وفهمه للتدين كمنزع فردي روحاني، لا كمنزع جماعي سياسي، ونبذه التكفير والعنف.
لكن المؤسف أن فكر ابن عربي ظل مغيباً، بعد أن انتصر عليه الفقهاء، وفرضوا تأويلهم الخاص الضيق والسلفي على الدين.. وما زلنا ندفع ثمن هذا الانتصار.