أضواء المدينة

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم د أسامه الفرا

 

 

 لعب شارلي شابلن في فيلمه الصامت "أضواء المدينة" بملابسه الممزقة دور الشاب الطيب الفقير، الذي وقع في حب الفتاة العمياء بائعة الورد، وكرس جهده لتأمين المبلغ الذي تحتاجه لإجراء عملية تستعيد بها بصرها، فشل في محاولات عدة قبل أن يتمكن من تأمين المبلغ المطلوب من رجل ثري في نوبة من نوبات سكره بعد أن منعه من الانتحار، جمع شابلن في الفيلم بين الرومانسية والفكاهة والتراجيديا، ورغم عرض الفيلم في الوقت الذي إجتاحت فيها الأفلام الناطقة السينما إلا أن الفيلم ما زال يعتبر من أفضل ما أنتجته السينما، والمشهد الأخير فيه ما زال يحتفظ بمكانته كواحد من المشاهد التي قلما أجادت إستنطاق المشاعر دون تزلف أو تجميل، المهم أن قصة الفيلم تتمحور حول الشاب الطيب البسيط الذي لا يبحث عن ذاته ويجد قيمة لحياته في مساعدة الغير، وهي بذلك تجسد قيمة إنسانية راقية، وبطلها ظل في مكانة الشاب الطيب بكل ما تحمله من صفات إيجابية دون أن يعكر صفوها صفات سلبية علقت بها من حيث لا نعلم.
في المقابل يتم تعريف الطيبة لدينا على نحو مغاير لطبيعتها وكنوزها الخلاقة، فالمرء الذي لا يجيد المكر والخداع ولا يعرف شيئاً عن دهاليز الدسائس وفنونها، ولا يعرف من أين تؤكل الكتف لجهله بقواعد النفاق والتملق، والذي لم تصل إلي مسامعه بعد قاعدة ميكافيلي "الغاية تبرر الوسيلة، يتم تصنيفه في مجتمعاتنا بأنه إنسان غلبان وفى أحيان أخرى يتم حشره مع أولئك الذين يسيرون في الحياة على البركة دون أن يكون لديهم الحد الأدنى من التخطيط وسبر أغوار المستقبل، وقد نجد من يلصق بهم صفة الطيبة ليس بما تحمله من إيجابيات بقدر ما تنزلق بمعانيها إلى مساحة السذاجة والغباء، وكأن المرء الذي يمسك بتلابيب الفطرة وتحكم السليقة تصرفاته لا يروق لنا، ولا ندخر جهداً في حشر الأبعاد السلبية في مفهومنا للطيبة حتى نصل بها إلي أعماق السذاجة، ونصف صاحبها بعدم المسؤولية وأن حضوره وغيابه سيان، ولا يحظى صاحبها بشيء من الاحترام الذي يستحوذ عليه من يقف في الجهة النقيضة للطيبة.
هل يخطيء المرء حين يملأ قلبه بالمحبة والطيبة ولا يترك فيه موضع قدم للكراهية والبغضاء؟، هل يسيء فهم الحياة حين يترك روحه تعانق القيم الإنسانية في فضائها الرحب دون أن يسمح لأنانية أن تمسك بناصيته؟، هل عليه أن يلتحق بمدرسة الفهلوة ويتعلم فنون الكذب ويجيد التلاعب بالبيضة والحجر؟، وهل عليه أن يحفظ عن ظهر قلب فلسفة شجرة اللبلاب وأن يتخذ منها منهج لحياته؟، وهل مطلوب منه قبل أن يلتحق بركب الحياة وتعقيداتها أن يمتلك مهارة السلب والنهب وأن يحترف التلاعب بالمشاعر ولغة الجسد كي نخرجه من عباءة الرجل الطيب الغلبان، وماذا لو أن طيبته منعته من محاكاة النفاق والتملق والتزلف ووقفت حائطاً صلداً في وجه المكر والخداع، هل عليه حينها أن يجني ثمار الفشل والعجز فيما غيره ينعم بما أفاض عليه مكره وخبثه من ثمار تسر الناظرين.
لا نعرف من أين جاءت ثقافتنا بكل تلك الصفات السلبية وألقت بها على كتف الطيبة وغاصت بصاحبها في رمال متحركة لا ملجأ ولا منجى له منها، ولا نعرف كيف يمكن للطيبة أن تلحق الأذي بصاحبها وتصيب شخصيته بالضعف والوهن، فأي شخصية قوية تلك التي ننشدها ويطيب لنا التلحف بها إن هي تخلت عن طيبتها ونقائها؟، تبقى مجموعة القيم هي أضواء المدينة الجميلة التي تجذب المجتمعات إليها بروعة تأثيرها حتى وإن إمتلأت شوارعها بأضواء ساطعة.