القدس والأقصى وصرخات كاهن: ومُسلماه.. وعُروبتاه.. وأمَّتاه!!

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم د. أحمد يوسف

 

إنَّ عظماء الرجال ليسوا مجرّد أسماءٍ عابرة، بل هم سيرة ومسيرة بصفحات خالدة، معطرة سطورها بالحكمة والمعرفة، ودروسها بالنهج والأثر.


وأنا أسمع نداءات الأب منويل وصرخاته المدوية إلى الأمة في محاولةٍ لتحريك نخوتها واستنهاض همَّتها لإغاثة القدس والأقصى، ونجدة المرابطين والمرابطات الذين داهمهم الغزاة المحتلين بالرصاص والهراوات وهم في صلاتهم خاشعون، وقد تعمَّدوا عن قصدٍ إهانتهم وتدنيس مقدساتهم على مرأىً ومسمعٍ من الجميع، وفي صورٍ تستفز مشاهدها ليس فقط المسلمين، بل أيضاً كلُّ إنسانٍ يتمتع بصحوة ضمير.


نعم؛ كلمات الأب منويل التي جاء بعضها على شكل تغريداتٍ ومناشدات وترانيم يصدح بها كاهنٌ كان في كلِّ مشوار حياته وطني الهوى والهوية، لم يخذل القدس والأقصى يوماً، إذ كانا دائماً على لسانه إلى جانب مقدساتٍ مسيحية أخرى، حيث يعاني الفلسطينيُّ في الوصول إلى مقدساته بدربٍ طويل من الآلام، جراء القيود التي فرضها الاحتلال.


إنَّ الأب منويل هو واحدٌ من الكهنة المسيحيين الذي لم يتوقف عن إطلاق صرخاته لتذكير حُكَّام المسلمين بما يفعله الصهاينة من تدنيسٍ للمقدسات، وما يتعرض له المسجد الأقصى والمرابطين في ساحاته من تعديات الجيش وقطعان المستوطنين، وما يُبيِّت له هؤلاء الغزاة المحتلين من مؤامراتٍ للاستيلاء على أجزاء منه لبناء ما يدَّعون أنه هيكلهم المزعوم.


أكثر من عشرة كتب صدرت عن حياة الأب منويل مسلَّم والمواقف والتصريحات التي أدلى بها بخصوص القدس والأقصى، وكان الكتاب الذي صدر لي -قبل عامين- بعنوان: (نفنى ولا تهون.. القدس والأقصى في المشهد النضالي الفلسطيني: الأب منويل مسلَّم نموذجاً)، يُضمِّن جملةَ آرائه ومواقفه والكثير من صرخاته ذات العلاقة بقضية القدس والأقصى والحالة الاحتلالية والمظلوميِّة التي طالت الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين.


لقد قمت برصد وجمع كلَّ ما صدر عن الأب منويل من نداءات وتصريحات وتغريدات تخص القدس والأقصى، وما أظهره في كلماته ورسائله من مواقف وبيانات، عكست مدى وعيه وتفهُّمه لحجم العلاقة بين هذه الكيانات المقدسة ومثيلاتها من الأماكن المسيحية، وحجم الخطر الذي يتهددها جميعاً. كان علينا أن نجمع كلَّ هذه الدُّرَرِ واللآلئ ونحن نقتفي آثار الأب منويل ونتابع محطات كلماته وما يُطلِقُهُ من نداءات استغاثة في المناسبات الوطنية والدينية، والتي كان يوجهها لحُكَّامِ العرب والمسلمين وإلى أبناء الجاليات العربية والمسلمة في الحواضر الغربية، من أجل نُصرة القدس والأقصى وفلسطين.


الأب منويل هذا العجوز الثمانيني ابن مدينة بيرزيت، الذي يمتلك بحيويته وهِمَّتِهِ العالية روح الشباب، ويستبطن بوعيه وبصيرته مراتب دهاقنة السياسة وأولي الألباب، ويتمتع بما أفاءَ الله عليه من بسطة في العقل والقلم وحلاوة اللسان وحجية الرأي البيان، وبالكثير من حكمة أصحاب الزمان.


إنَّ كلَّ ما نسمعه من مواقف وتصريحات هو -في الحقيقة- تجسيدٌ لقوة إيمانه وصدق وطنيته التي تتسم بالجرأة والشجاعة، فالأب منويل هو ظاهرة فريدة، أتمنى أن نشاهد لها أشباهاً كثيرة في العالم المسيحي.. إنه رجلٌ بصحوة ضمير، وقد جعلت مواقفه المتوازنة دينياً الكثير من المسلمين يُغيِّرون من وجهات نظرهم السلبية تجاه المسيحيين، والتي شكَّلتها وقائع الأحداث التاريخية التي جرت خلال الحملات الصليبية على بلاد المشرق الإسلامي.


إنَّ الأب منويل الذي عرفته، وتعاملت معه لسنوات طويلة، تجاوزت العقد ونصف العقد من الزمن، ليس فقط كرجل دين بصحوة ضمير، بل أيضاً كإنسانٍ متسامحٍ ومتصالحٍ مع ذاته، ومتميزٍ في وعيه وفهمه لرسالة السماء والمهمة التي يحملها ويتحرك بها ورثة الأنبياء.


إننا في فلسطين نعتز بمواقف الرجل النضالية، ونقدر ما يمثله هذا الكاهن من مكانة دينية تجاوزت ثياب الكهنوت التي يلبسها إلى ما يتمتع به من رمزية وطنية، جعلت منه محط احترام "الكل الفلسطيني"، باعتباره أيقونة جسَّدت حضورها في فضاءات الدين والسياسة.


إنَّ كتاب (نفنى ولا تهون) الذي تناولت فيه -قبل عامين- مواقف الأب منويل تجاه القدس والأقصى إنما هو محاولة لإلقاء الضوء على شخصية هذا الكاهن، وعلاقاته الروحية والحضارية والتراثية بكلٍّ من القدس والأقصى، فالقدسُ مغروسة قداستها في شغاف قلبه، والأقصى بفضائه وجواره الطاهر لكنيسة القيامة هو ملتقى أنفاس الأنبياء، ورابطة التآخي الإنساني والحضاري لروح وثيقة العهد العُمرية، التي أرســت أركان السلم والأمن والتعايش بين المسلمين والمسيحيين في هذه المدينة المقدسة وأكنافها، التي باركها ربُّ السموات والأرض للعالمين.


إنَّ الأب منويل في صفحات حياته ليس قصة كاهن أو رجُلاً ضليعاً في عالم اللاهوت، بل هو إنسان تميز وطنياً ودينياً وثقافياً ونضالياً، فكان فلسطيني الجذور وفلسطيني الحضور، وكان مسيحيّ الجذور وعالمي الحضور، وكان بشعره وأدبه وطنيّ الجذور ووطني الحضور، وكان بثقافته وانتمائه الحضاري مسيحي الجذور وإسلامي الحضور، وكان بنضاله السياسي فتحاوي الجذور وبدعمه للمقاومة حمساوي الحضور.

 

إنَّ الأب منويل هو سرديّةٌ لشخصية فلسطينية استثنائية الوعي والثقافة، نقدمها بفخرٍ للأجيال من قادمٍ وحضور، حيث إنَّ مواقفه كإنسان بمثابة إطلالة فريدة ومشكاةٍ من نور، وأنَّ هذا العمق في الانتماء للقدس والأقصى من كاهنٍ مثله إنما هو رسالةٌ أودعها أمانةً عند كلِّ المسيحيين، مفادها: "إذا ضاع الأقصى ضاعت القيامة، وعلى القدس السلام".


في الحقيقة، إنني أتفهم الفلسفة الوطنية والدينية الراقية التي تقف خلف هذه الكلمات في سياق أبعادها الاستراتيجية العميقة، باعتبارها الرؤية لمشروعه الطموح، والذي لطالما بشَّر به، وحاول فيه -كما يقول- إقامة لقاءات في القُرى والمدن، وذلك بهدفٌ أن أُسمِّي شارعاً في كُلِّ قرية باسم القُدس، وأن أغرِسَ شجرةَ زيتون في كلِّ قرية باسم القُدس، وفي الجامعات أن أزرع حرشاً باسم القُدس، وأن تكونَ أشجاره بأسماء المتبرعينَ لِطلاب القدس في المعاهد والجامعات.
إن تجليات الوعي الديني والسياسي والحضاري لدى الأب منويل تبرز في مقولته الجامعة: "إنَّ الأقصى كيانٌ له ثلاثة أبعاد: الأرض والإنسان والدين، وأنَّ كلَّ بُعْدٍ ينغمس في الأبعاد الأخرى ويمتزج معها؛ فالأرض هي للفلسطيني، وتحدد له الإسلام ديناً.. والفلسطيني للأقصى، ويحدد للأقصى الإسلام ديناً.. والدين للأقصى، ويحدد للفلسطيني والأرض ديناً.. وهذه الأبعاد الثلاثة لها بعد قومي وحضاري".


إنَّ الأب منويل هو نموذجٌ لرجلِ الدين الذي ارتقت وطنيته وحسِّه الإنساني والحضاري فوق كلِّ اعتبار آخر، حيث أعطى للمقدَّس الإسلامي ما أعطاه للمقدَّس المسيحي من رمزية ومكانة، وربط فضاءات المسجد الأقصى الدينية وكنيسة القيامة بهذه القداسة؛ بهدف تحريك جموع المسلمين والمسيحيين حول العالم للوقوف إلى جانب الفلسطينيين ونُصرتهم في وجه المحتلين الغزاة، ممن اعتدوا ودنسوا وانتهكوا حُرمة هذه المقدسات.


إنَّ الأب منويل -اليوم- هو الصوت الفلسطيني بنبرته ومفرداته المسيحية وحسّه الإنساني وثقافته الإسلامية، الشخص الذي يخاطب بقوة أهل الهمَّة والدين من رجالات الأمة وزعماء المسلمين، قائلاً لكلِّ واحد منهم: "أيها الزعيم.. أيها الملك.. يا صاحب الجلالة والفخامة والسمو.. جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس"، فهل كانت منك نخوة المعتصم واستجابة صلاح الدين؟!


وبانتظار أن يأتي الجواب، سيظل الكاهن يصرخ ومعه حرائر فلسطين: وأمَّتاه!!