رزحت القضية الفلسطينية على مدار عقود تحت وطأة اعتبارات سياسية تحكمت بشكل مباشر في توازن ميزان القوى في المنطقة لصالح إسرائيل، وساهمت في عدم حل القضية الفلسطينية. ولا يرتبط حل قضية فلسطين بالفلسطينيين فقط في منطقة مهمة وخطيرة كمنطقة الشرق الأوسط، وإنما يتعلق حلها بعوامل دولية وإقليمية ترتبط بالقوى الدولية الرئيسة، بالإضافة إلى عوامل محلية فلسطينية وداخلية إسرائيلية. ولا يمكن إغفال دور الولايات المتحدة في صقل ميزان القوى لصالح إسرائيل ليس فقط في إطار القضية الفلسطينية، وإنما أيضاً في المنطقة كلها. فخلال فترة الحرب الباردة، وعهد ثنائية القطبية، تبنت الولايات المتحدة إسرائيل، بعد احتلالها للأرض المتبقية من فلسطين عام ١٩٦٧، والذي جاء دون حاسب أو رادع في ظل دعم مفتوح سياسي ودبلوماسي وعسكري واقتصادي لإسرائيل من قبل القطب الأميركي.
وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتحوّل الولايات المتحدة للقطب العالمي الأوحد، تبنت الولايات المتحدة عملية سلمية لصالح إسرائيل، حليفتها الأولى في العالم. فأقحمت الفلسطينيين في عملية سلمية مطاطة، تقوم على أساس إدارة للصراع وليس الحل، وتقييد وتجريم النضال الفلسطيني. ومن جهة أخرى، حمت ودعمت ودافعت عن حكومات الاحتلال المختلفة، الأمر الذي قوّى من مكانة الكيان المحتل واستمراره وتمكينه من تحقيق أهدافه في الأراضي المحتلة، وحيّدت كذلك جميع عناصر القوة الإقليمية التي يمكن أن تساهم في دعم الفلسطينيين في معركتهم مع الاحتلال من جانب ثالث. اليوم تشهد المنطقة العديد من التطورات الميدانية لصالح الفلسطينيين، تأتي من جبهات مختلفة، فهل تأتي هذه التطورات الميدانية في ظل تغيرات سياسية ترتبط بمعادلات الصراع الكبرى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أم هي تطورات ميدانية عابرة؟
حدث في فلسطين وأكنافها العديد من التطورات الميدانية التي تستدعي المرور عليها لقراءتها في ظل معطيات سياسية أوسع. تشهد فلسطين انتفاضة حقيقية بمعطيات مختلفة عن المعهود. وتعمّ أراضي الضفة الغربية منذ العام الماضي مقاومة شرسة تنتشر في جميع أراضي الضفة الغربية، تتركز في شمالها، ويواجه الاحتلال صعوبة في دحرها، بل على العكس هي في تزايد مطّرد، رغم ممارسات الاحتلال الخارجة عن نطاق القانون لمواجهتها. وتستمر العمليات الفردية الفلسطينية غير المسلحة، والتي بدأت منذ سنوات، ويصعب التنبؤ بها، ليس في الضفة الغربية وحدها، وإنما أيضاً في أراضي العام ٤٨. ويطوّر الفلسطينيون مقاومتهم السلمية في الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، في صمود وتحدٍ لافت، منذ رفضهم لوضع البوابات الإلكترونية عام ٢٠١٧، وفرض تواجدهم على المدرجات المقابلة لباب العامود خلال شهر رمضان في العام ٢٠٢١، وفي فرض وجودهم مرابطين في المسجد الأقصى في ليالي شهر رمضان الحالي. وتلتحم غزة في ملحمة متناغمة مع الضفة الغربية بصواريخها للدفاع عن أبناء شعبها ومقدسات وطنها. هذا العام لم يتحد الفلسطينيون في الضفة وغزة والقدس وفي أراضي العام ٤٨ فقط، بل جاء الالتحام من لبنان أيضاً، بإطلاق ٣٥ صاروخاً، فكسروا معادلة الهدوء بين إسرائيل و"حزب الله" القائمة منذ العام ٢٠٠٦، وكذلك من سورية بإطلاق ٦ صواريخ، في خطوة لم تأت منذ سنوات. وقد يكون التطور الأهم في رد الاحتلال، الذي قرر عدم التصادم مع الفلسطينيين في القدس، بعد فضيحة إخلاء المسجد الأقصى بالقوة قبل أيام، والتي أعقبتها صواريخ المقاومة القادمة من الجبهات الثلاث، وعدم خوض حرب مع لبنان وغزة، كما كان معهوداً، والاكتفاء بضربات محسوبة الشدة، تميز بين مطلقي الصواريخ وسلطة الواقع.
هذه التطورات الميدانية في فلسطين ومن حولها قد تكون عادية أو غير أهل للتحليل إن جاءت بمعزل عن تبدلات دولية وإقليمية ومحلية تراكمية، من الواجب النظر إليها، لوضعها في سياق سليم. كشفت الحرب الروسية الأوكرانية التي انفجرت قبل أكثر من عام عن تبدل لنظام القوى الدولي باتجاه القطبية المتعددة، وارتفاع أسهم القطبين الصيني والروسي وبقاء الأميركي، ناهيك عن وجود قوى دولية أخرى لا يمكن إغفال مكانتها أيضاً. أرسى ذلك التطور في معادلة القوى الدولية مجموعة من السياسات المتغيرة والمتفاعلة في منطقة الشرق الأوسط. تحسن الوضع العام الإيراني في أعقاب تطور علاقاتها الإستراتيجية مع روسيا والصين، في ظل يأسها من سياسة الولايات المتحدة في التعامل مع قضية الملف النووي الإيراني والعقوبات المستمرة عليها. شكل الاقتراب الصيني والروسي من دول المنطقة، على رأسها دول الخليج العربي، نقطة تحول مهمة في علاقات تلك الدول العربية بالنظر إلى مصالحها والابتعاد قليلاً عن الهيمنة والسيطرة الأميركية المكلفة، والتي فشلت في تقديم الحماية والاستقرار في المنطقة خلال السنوات الأخيرة. جاء ذلك في إطار توجه الولايات المتحدة للانسحاب من المنطقة منذ عهد أوباما، للالتفاف نحو آسيا، في سبيل تطويق صعود المارد الصيني المنافس، وازدادت أهمية ذلك التوجه بالانسحاب من المنطقة في ظل تصاعد لظى الحرب الروسية الأوكرانية، والتي تتبناها الولايات المتحدة بهدف ترويض روسيا. إن هذه التطورات قد تجيب صراحة عن أسباب الصلح الإيراني العربي الذي شهدناه مؤخراً، وجاء بمبادرة ووساطة صينية، وبدأ يحمل حلولاً للصراعات والحروب المتأججة في المنطقة، والتي جاءت أغلبها بالوكالة عن الطرفين، في لبنان واليمن وسورية والعراق. ولا تخرج مفاوضات اليمن اليوم وبلورة مسودة اتفاق تجديد وقف إطلاق النار، الذي انتهى منذ شهر تشرين الأول الماضي، ومبادرات إعادة سورية إلى حضن الجامعة العربية في أيار المقبل عن تلك التطورات. ولا يمكن فصل التطور الميداني في سورية ولبنان والتنبؤ بإمكانية تصاعده في مواجهة إسرائيل عن تلك التطورات.
على الصعيد الداخلي الفلسطيني، بلور الشعب الفلسطيني مقاربة سياسية مختلفة، بعد تجربة عقيمة مع عملية سلمية مضللة، استنزفت طاقاته على مدار ثلاثة عقود، بانتفاضة بمعاير مختلفة. فالانتفاضة الفلسطينية يحتضنها الشعب وليس الفصائل بما يعقد قراءة تطوراتها، ليست لها قيادة مركزية تكون هدفاً للاستهداف، وعمليات الاغتيال المنظمة من قبل قوات الاحتلال كما كان في الماضي، تلتحم فيها جميع الطاقات بشكل تكاملي، ودون اتفاق مبرم، وتتفق فيها جميع الجبهات، حتى وإن كان الانقسام قائماً. على الجانب الآخر، يحكم كيان الاحتلال اليوم بحكومة، ما هي إلا نتاج سياسة عنصرية طويلة، بنيت عبر السنوات لترسيخ نظام احتلال عنصري ديني إرهابي ضد الفلسطينيين، فانقلب السحر على الساحر، وها هو الانقسام المجتمعي الإسرائيلي يقصم ظهر اسرائيل، وقد يكون ذلك الانقسام من أهم عناصر إضعاف هذا الكيان. وما يزيد الأمر تعقيداً على إسرائيل، في ظل تلك التطورات الداخلية، علاقتها مع الولايات المتحدة، فبعد أن كانت الولايات المتحدة تعتمد عليها في المنطقة، انطلاقاً من قوتها ومكانتها السياسية، التي رسختها بيدها، باتت إسرائيل اليوم تشكل عبئاً حقيقياً عليها. وهو أمر يمكن قراءته من خلال تعليقات المحللين في كبرى الصحف الأميركية، واعتراض الكثير من المشرعين الأميركيين على سياسات إسرائيل الدموية تجاه الفلسطينيين، وعلى سكوت بلادهم عن تلك السياسات، بل بات هناك تعاطف واضح لدى الأميركيين من شريحة الشباب ومن أتباع الحزب الديمقراطي مع الفلسطينيين وقضيتهم.
من مصلحة الفلسطينيين اليوم اعتماد سياساتهم المقاومة الجديدة، بتطوير وتنسيق واعٍ على جميع الجبهات. ومن مصلحة القضية الفلسطينية أن تتطور معادلة تنسيق العلاقات العربية الإيرانية في المنطقة، واختفاء المعادلة التي عملت الولايات المتحدة على إرسائها عبر السنوات الماضية، والقائمة على التعاون بين دول الاعتدال العربي مع إسرائيل ضد دول محور الشر بقيادة إيران وحليفتها، والتي حكمت على المنطقة بالصراع الدامي المدمر على حساب شعوبها. ومن مصلحة مستقبل قضيتنا ترسيخ نظام متعدد الأقطاب، يخلق التوازن في السياسات الدولية، بدل احتكارها من قبل قطب واحد، يعتبر الحليف الأهم في العالم لعدونا.