من تداعيات الحرب الأوكرانية وتخبط السياسة الخارجية الأمريكية دخول العالم في مرحلة مخاض ستتبلور عاجلا ً أو آجلا ً بشكل تحالفات ومحاور جديدة على الساحة الدولية من أبرزها الحضور القوي المتزايد للصين وابتعاد بعض الحلفاء التقليديين للغرب عنه وتحولهم نحو البحث الجدي عن مكان تواجد مصالحهم الاقتصادية والأمنية.
ومن انعكاسات هذه التطورات الدولية على الساحة العربية هو الميل نحو طي صفحات الخلافات والصراعات ومحاولات فرض إرادة بعض الدول على دول أخرى وخاصة بعد ثبوت فشل تلك المحاولات في بعض الساحات كالساحة السورية.
وبدون الخوض في ذلك يكفي القول بأننا أمام بشائر مصالحة عربية داخلية مهد لها الانفراج في العلاقات السعودية الإيرانية الذي انعكس فورا ً على الساحتين اليمنية والسورية والذي أحيا الآمال بأن تجد الأطراف المتحاربة في اليمن طريقا ً نحو انهاء تلك الحرب بعد أن أنهكت هذا البلد الذي هو بأمس الحاجة للاستقرار والتفرغ للتطوير والبناء بعد الدمار الذي ألحقته الحرب ببنيته الاقتصادية والاجتماعية. وكذلك تضافر الجهود بقيادة العربية السعودية لإعادة سوريا الى حضن الأمة العربية بعد عشر سنوات من الاغتراب ذاق خلالها الشعب السوري أبشع ويلات الحرب وتحولت سوريا خلالها الى ساحة للحروب بالوكالة وتم اقتطاع أجزاء من أراضيها من قبل الاحتلال الأمريكي والتركي والميليشيات المحلية وتشريد شعبها الى شتى أنحاء المعمورة.
ولا بد من التأكيد هنا بأن التطورات وتحركات المصالحة الأخيرة التي نتمنى لها النجاح قد أثبتت عددا ً من الحقائق أبرزها الدور المركزي الذي تلعبه العربية السعودية في الإقليم والذي لا يمكن تجاهله، والحقيقة الثانية هي فشل كل المراهنات على اسقاط النظام السوري وتحويل سوريا الى ليبيا أو سودان آخر، والحقيقة الثالثة وهي عمق تغلغل إيران في الإقليم وتواجدها في بعض الدول العربية وضرورة العمل معها لا ضدها مع مراعاة المصالح القومية العربية وتقديمها على أية مصالح أو اعتبارات أخرى.
لقد كانت السنوات العشر الماضية سنين عجاف بددت الطاقات الاقتصادية والعسكرية لمعظم دول الإقليم وألحقت الدمار والتمزق الاجتماعي واللجوء لشعوب بعضها، كل ذلك بشكل عبثي لم يخدم سوى مصالح من يتربصون بأمتنا العربية ولا يريدون لها سوى الدمار والشتات. ولعل الصحوة الحالية ورياح التصالح التي تهب على عالمنا العربي والتي للعربية السعودية دورا ً إيجابيا ً فيها أن تستمر وتؤتي أكلها بإذن الله.
فالذي يمكن قوله الآن ولكن بحذر شديد، هو أن المنطقة العربية تقف على أبواب مرحلة جديدة اذا استمرت فإنها ستخفف الكثير من العناء والويلات عن شعوبها وتصون مواردها وتعيد اليها الأمن والاستقرار وفرص التطوير والبناء ما لم تنجح الأيدي الخفية المعادية في العبث مجددا ً وإفشال روح التصالح والمصالحة التي نشعر بها ونراها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي يمنع أن تنتقل عدوى المصالحة من الإقليم الذي نحن جزء منه الى الساحة الفلسطينية التي تعاني من ويلات التشرذم والانقسام منذ أكثر من خمسة عشر عاما؟
لقد شهدت الساحة الفلسطينية منذ انقسام حزيران 2007 تغولا ً للاحتلال والاستيطان سواء في الضفة الغربية أو القدس واعتداءات فظة على المقدسات الإسلامية والمسيحية واستهتار بحياة وأرواح وممتلكات والحقوق الإنسانية للفلسطينيين وانتهاكها بشكل ممنهج ومستمر دون رادع أو مانع. وشهدت الساحة الفلسطينية انهيارا ً للمؤسسات وخلطا ً بين السلطات الثلاث وتحول الحكم مطية لتحقيق المصالح الضيقة لبعض الأفراد والجماعات وأصبحنا رهينة إن لم نكن أداة في يد الاحتلال.
ما أحوجنا اليوم وأمام رياح التصالح وتغيير التحالفات والعلاقات بين دول الإقليم والعالم، ما أحوجنا الى أن نعود لأنفسنا ونبدأ في ترتيب بيتنا الداخلي من خلال خطوات صغيرة ولكن متتالية وتراكمية لكي نستطيع أن نكون جزءا ً من الحالة التي يتجه نحوها الإقليم لا أن نكون تابعين لأحد خاضعين لمزاجه وأوامره سواء كان دولة واحدة أو مجموعة من الدول.
وهناك من يعتقد بأن إسرائيل وبعض دول الإقليم تروق لها الحالة الفلسطينية الراهنة ولا تريد لنا أن نجري انتخابات أو أن نقوم بإصلاح شأننا الداخلي وتتخذ من فزاعة حماس سببا ً للإصرار على إبقاء الحالة الفلسطينية كما هي. وأقول بأننا لطالما تمسكنا بالقرار الوطني الفلسطيني المستقل والذي رفعنا شعارة وبقوة ضد محاولات التحكم والتدخل بالشأن الفلسطيني بعد الخروج من بيروت فكان شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل هو شعار دورة المجلس الوطني الذي انعقد في عمان عام 1984، فما الذي يمنعنا من أن نعيد للقرار الوطني الفلسطيني المستقل فعاليته ؟
آن الأوان لأن ننهض من جديد، وأن نكون جزءا ً من رياح المصالحة التي تهب على المنطقة وأن نضع وراءنا الانقسام ونعود للاحتكام للشرعية الانتخابية وسيادة حكم القانون، وإلا فلنعترف بأننا فشلنا، ونترك للأجيال القادمة أن تقرر مصيرها بنفسها دون وصاية من أحد.