يشهد العالم الكثير من الأحداث التي تحتاج إلى تحليل وتفسير لكي يفهمها الجمهور، لكن النظام الإعلامي العالمي لا يوفر المعرفة التي يمكن أن تساعد الناس على مواجهة المخاطر التي تهدد وجود الإنسانية وتنذر بأن الصراع في العالم يتجه إلى مرحلة جديدة.
من أهم دلالات الأحداث أن الصراع العالمي يزداد تعقيدا، لذلك تحتاج وسائل الإعلام إلى تطوير وظائفها وتحقيق العدالة في عرض الآراء والمواقف، فتحيز وسائل الإعلام الغربية لإسرائيل أدى إلى تجهيل الجماهير وتضليلها وتزييف وعيها وعدم تشكيل رأي عام عالمي يمكن أن يحمي العالم من انفجار شامل.
التحيز لإسرائيل ارتبط بالتحيز ضد المسلمين وعدم إعطائهم الفرصة لتوضيح مواقفهم ورؤيتهم وروايتهم للأحداث، وهذا يشكل حالة ظلم عام لهم، وفي الوقت ذاته يؤدي إلى تضليل الجماهير والتقليل من قدرتها على الكفاح ضد القوى التي تريد إشعال الحروب وتدمير البشرية، وما نشهده خلال الأيام الماضية يوضح حاجة العالم إلى بناء نظام إعلامي عالمي جديد يوفر المعرفة للجماهير ويحميها من التجهيل والتضليل ويحقق العدالة للجميع، وهذا يمكنه أن يحمي العالم من أن يتحول الصراع إلى حرب شاملة.
لماذا يدور الصراع حول القدس؟
لم تحاول وسائل الإعلام أن تفسر الأحداث للجمهور أو أن تقدم إجابة لأسئلة مهمة: لماذا يدور الصراع حول المسجد الأقصى؟ ولماذا يصر المتطرفون اليمينيون في إسرائيل على ذبح القرابين داخله، فيما يضحي المسلمون الفلسطينيون العزّل بحياتهم دفاعا عنه؟ وماذا يعني ذبح القرابين؟
هناك صدام بين رؤيتين لا يمكن التوفيق بينهما، لذلك سوف تشتعل حرب شاملة بسبب المسجد الأقصى، ووصول اليمين المتطرف بقيادة بن غفير إلى الحكم في إسرائيل مقدمة لانفجار لا يمكن تجنبه إلا إذا امتلك العالم الحكمة وتم تشكيل رأي عام عالمي يواجه المخططات الإسرائيلية ويرغم الحكومة الإسرائيلية على لجم المتطرفين الذين يريدون ذبح القرابين داخل المسجد كبداية لإقامة هيكل سليمان على أنقاضه طبقا لرؤيتهم الدينية ولتحقيق حلمهم الذي قامت دولتهم لتحقيقه.
هذه الرؤية يعتنقها الصهاينة جميعا، لكن في السنوات السابقة كانت الحكومات الإسرائيلية تمنع المتطرفين من محاولة ذبح القرابين حتى لا تنفجر حرب شاملة وتعمل لتأجيل بناء الهيكل.
الآن وصل اليمينيون المتطرفون إلى الحكم، ووجدوا أن الفرصة جاءت لتحقيق حلمهم، فالدول العربية تخضع لهم ولا تستطيع مواجهتهم، وتتمنى رضا أميركا التي تحمي إسرائيل وتضمن تفوقها وسيطرتها على المنطقة.
المرابطون يدافعون عن العالم
أدرك الفلسطينيون طبيعة المرحلة التاريخية وظروفها، فكانت وسيلتهم للدفاع عن المسجد الأقصى هي الوجود فيه والاعتكاف وأداء صلاة التراويح، لمنع الحكومة الإسرائيلية المتطرفة من السماح بذبح القرابين حتى لا تتحول إلى مذبحة.
بذلك دافع المرابطون الفلسطينيون عن الإنسانية كلها بأجسادهم وأرواحهم وصلاتهم حتى لا تنفجر نيران حرب شاملة في المنطقة، ويجب أن يدرك العالم مخاطر المخطط الإسرائيلي لبناء الهيكل على أنقاض المسجد، فإن كانت الحرب قد تم تأجيلها عاما آخر فالفضل في ذلك يعود للمرابطين الذين تمكنوا من حماية المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، ولو أن وسائل الإعلام وفرت المعرفة للجمهور وكشفت الحقائق لأدرك الناس في كل العالم أن المرابطين وهم يدافعون عن مسجدهم الأقصى يدافعون عن حق الإنسانية في الحياة والوجود ويحمون العالم من حرب شاملة.
احترام العالم للعقيدة الإسلامية
لكي يحصل العالم على صورة شاملة للأحداث يجب أن تقوم وسائل الإعلام بتوفير الفرصة للمسلمين لعرض رؤيتهم وتوضيح عقيدتهم، فهذا لم يعد حقا لهم وحدهم، فهو حق لكل الجماهير في العالم، وبدون هذه الرؤية لن يستطيع أحد أن يفهم الأحداث.
لكي تتم حماية العالم من حرب شاملة في المنطقة يجب أن يتم تشكيل رأي عام عالمي يرفض المساس بالمسجد الأقصى ويمنع إسرائيل من تنفيذ مخططها بهدمه، والوقوف في وجه المتطرفين.
إن الأمر خطير جدا، فهدم المسجد الأقصى لإقامة الهيكل يعني بوضوح أن الملايين من المسلمين سيضحون بأرواحهم من أجله وسوف تحدث مذابح لا يتخيلها أحد بسبب الجهل بمكانة هذا المسجد في العقيدة الإسلامية، والعالم يجب أن يمتلك الحكمة والإنصاف، فكل من على الأرض له الحق في حرية العقيدة، وبالتأكيد هذا يشمل المسلمين.
الخرافات الصهيونية في مواجهة العقيدة الإسلامية
لو فتحت وسائل الإعلام المجال لشرح العقيدة الإسلامية لأدرك العالم مكانة المسجد الأقصى فيها، وأن الاعتداء على هذا المسجد سيدفع الأحداث إلى التصاعد، ولن يستطيع أحد مواجهة النار التي يمكن أن تحرق العالم.
المسلمون يعتقدون أن المسجد الأقصى بنته الملائكة في عهد أبينا آدم -عليه السلام- بعد 40 سنة من بناء المسجد الحرام، وأن الله عهد إلى أنبيائه برعاية هذا المسجد وحمايته، ومنهم سليمان -عليه السلام- الذي لم يقم ببناء هيكل ولكنه حافظ على المسجد الأقصى وعبد الله فيه.
وسليمان -عليه السلام- نبي يعبد الله ولا يمكن أن يبني هيكلا أصلا، فاتهامه ببناء هيكل يشكل إساءة له، والمسلمون يرفضون الإساءة إلى أنبياء الله، والمسلمون هم الذين يعرفون قصص الأنبياء، وهم الأمناء على هذه القصص التي أكرمهم الله بمعرفتها في القرآن الكريم أو جاءت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
من يريد أن يعرف القصص الحقيقية لأنبياء الله فإن المسلمين يمكن أن يوفروا له المعرفة التي جاءت في القرآن الكريم، وهو كلام الله المنزل على رسوله عن طريق أمين الوحي جبريل، وهو المحفوظ في صدور المؤمنين كما قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا مجال للمساومة على العقيدة أو التفاوض حولها، أو استغلال ضعف المسلمين في هذا العصر للتوصل إلى حلول وسط، والحل الوحيد هو احترام عقيدة المسلمين لتجنب الصدام.
الارتباط بالمسجد الحرام
يعتقد المسلمون أن المسجد الأقصى يرتبط بالمسجد الحرام، وذلك واضح في سورة الإسراء وأن الله سبحانه وتعالى أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وفيه صلى إماما بأنبياء الله، وهذا يحمل دلالات، من أهمها تسليم الأنبياء للرسالة والأمانة والدعوة لتوحيد الله وعبادته ولحماية المسجد الأقصى إلى الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.
وطبقا لذلك، فإن الأمة الإسلامية مكلفة بالدفاع عن المسجد الأقصى وحمايته، ومن أجله يمكن أن تضحي بكل ما تملك، وإنه لشرف عظيم في الدنيا والفوز بالآخرة أن يضحي المسلم بروحه دفاعا عن هذا المسجد، وهذا يفسر سلوك المرابطين في المسجد وإصرارهم على حمايته بأرواحهم، وهم يقومون نيابة عن الأمة الإسلامية بواجب ووظيفة حضارية وإنسانية ودينية، وقلوب كل المسلمين في العالم تتعلق بهذا المسجد، وإسرائيل تفهم ذلك أكثر من النظم العربية التي لا يهمها سوى تحقيق الاستقرار.
تحرير المسجد مشروع حضاري إسلامي
تطلع المؤمنون إلى تحرير المسجد الأقصى من الإمبراطورية الرومانية باعتباره يشكل ركنا أساسيا في المشروع الحضاري الإسلامي، ودراسة سلوك القادة والجيوش التي قامت بهذه المهمة العظيمة توضح الكثير من الحقائق، من أهمها الحرص على عدم سفك الدماء وفتح المجال أمام جيش الرومان لمغادرة المنطقة، وهذا يفسر الكثير من أحداث التاريخ، ومنها عزل خالد بن الوليد (القائد العسكري العبقري المتميز) عن قيادة الجيش، ليتولى القيادة أمين الأمة الفقيه العالم أبو عبيدة عامر بن الجراح.
هذا مجال القيادة القائمة على المعرفة التي تدير صراعا حضاريا بالمعرفة والعلم قبل السلاح، لذلك كان يجب أن يكون القائد الميداني هو أبو عبيدة، وأن يكون القائد العام هو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين الذي جاء ليفتحها بنفسه وليحمي حقوق المسيحيين في القدس.
لقد حرص المسلمون طوال تاريخهم على تحويل القدس إلى مركز للمعرفة أو جامعة كبرى يتلقى فيها الطلاب العلم ليصبحوا علماء ينشرون نور الإسلام في بلادهم، وهذا يفسر كيف كان معظم الشهداء الذين قتلهم الصليبيون من الطلاب.
لم يحترم الصليبيون الوظيفة الحضارية للمدينة المقدسة، فسفكوا دماء 70 ألفا من طلاب العلم حتى خاضت خيولهم في الدماء التي أغرقت المسجد الأقصى، لكن الأمة الإسلامية ظلت تحلم بتحرير المسجد حتى تمكن صلاح الدين الأيوبي من توحيد الأمة وتحقيق الهدف العظيم.
تحرير المسجد الأقصى يظل هدفا لحياة كل مسلم يحلم بتحقيقه ويعد نفسه وأولاده من أجله، وإسرائيل تدرك ذلك جيدا وتعلم أن الأمة الإسلامية الآن في حالة ضعف ولم يعد يدافع عن المسجد سوى المرابطين الذين لا يملكون إلا إيمانهم بالله وثقتهم في نصره.
الضعيف يمكن أن ينتفض ويبني القوة
يجب أن يفهم الجميع دروس التاريخ، والتي من أهمها أن الضعيف يمكن أن ينتفض ويبدع ويبتكر وينتج سلاحه ويقاوم ويصر على تحقيق هدفه العظيم وأن العالم يشهد الآن الكثير من الأحداث التي يمكن أن تساعدنا في استشراف المستقبل.
مشهد المرابطين وهم يصلّون عبادة لله ويدافعون عن المسجد يمكن أن يساهم في إعادة الوعي للأمة الإسلامية بوظيفتها ومشروعها الحضاري ويدفع الناس إلى إعادة ترتيب أهداف حياتهم، وهذا يدفعهم لانتفاضة شاملة تشكل عالما جديدا تحتل فيه الأمة الإسلامية مكانتها وتقوم بدور تاريخي جديد في توفير المعرفة للشعوب وقيادة كفاحها للتحرر من الاستعمار القديم والجديد وانتزاع حريتها وحقها في الحياة.
ربما يكون من أهم إنجازات المرابطين في المسجد الأقصى إعادة الوعي للناس وتحريرهم من الجهل، فهؤلاء الذين يدافعون عن مسجدهم الأقصى قاموا ببناء منظورهم للحياة، وطبقا لذلك المنظور فإن الشهادة لتحقيق هدف عظيم هي النهاية التي تليق بالإنسان الذي كرمه الله، وعندما ينتشر هذا المنظور يمكن أن يتغير الواقع، والمشهد يمكن أن يشكل إلهاما لكل الشعوب التي تتعرض للقهر والفقر.
لكن، هل يمكن في ظل كل ذلك أن يتحقق السلام؟ الإجابة هي: نعم، عندما يتشكل رأي عام عالمي يضغط على إسرائيل لترك القدس لأصحابها الحقيقيين والرحيل بعيدا عنها، لكن اليمين المتطرف سيواصل تنفيذ مخططه لتحقيق حلمه ببناء الهيكل، وهذا يشكل بداية حرب شاملة.
فهل تقوم وسائل الإعلام بوظيفتها في شرح الأحداث وتفسيرها وفتح المجال أمام المسلمين لتقديم روايتهم للبشرية وإنقاذ العالم من حرب يمكن أن تسيل فيها دماء الملايين؟ نعم، نحن نريد إنقاذ البشرية، ولكن بالحوار والعدل واحترام عقيدة المسلمين وعدم استغلال ضعفها، وعدم استخدام القوة الغاشمة ضدها، وحماية حقها في معرفة الحقائق لمواجهة الخطر بحكمة، فالقوة الغاشمة تستخدم في التخريب والتدمير والإبادة، والتاريخ يعلمنا أن على الباغي أن ينتظر حتى يتحول غضب الشعوب إلى قوة فاعلة