بعد غياب 21 عاماً في سجون الاحتلال، مروان البرغوثي الأكثر حضوراً وتألقاً

حجم الخط

بقلم تيسير نصر الله

 

عندما تعود بي الذاكرة إلى الوراء قرابة الأربعين عاماً، أتذكر ذلك الشاب المفعم بالحيوية مروان البرغوثي، حيث لم يمض على خروجه من سجون الإحتلال الإسرائيلي بضعة أيام، ومباشرة وكباقي الأسرى المحررين يلتحق بجامعة بير زيت، ومن هنا بدأت حكايتي مع مروان.


كنت آنذاك طالباً في جامعة النجاح الوطنية بنابلس، وكنت كالكثير من الطلبة دائم التردد على السجون وزنازينها المشبعة بالرطوبة، لأنّ الجامعات كانت حاضنة للعمل الوطني ضد الإحتلال بامتياز، فليس غريباً أن يتعارف الطلبة، وخاصة النشطاء منهم، على بعضهم البعض، ففي أول زيارة لجامعة بير زيت تعرّفت على الأخ مروان، وسمير صبيحات، ونايف سويطات، كان هذا الثلاثي يقترن ببعضه البعض، مع وجود عدد كبير من أبناء الشبيبة يقودون الجامعة، إلاّ أنّ هؤلاء الثلاثة كانوا الأكثر بروزاً بين زملائهم.


في ذلك الوقت، كان ثمن الإنتماء للحركة والنضال في صفوفها مُكلفاً، ولم يكن مجرد نزهة، فإما الإعتقال أو الإستشهاد، أو المطاردة ومن ثم الطرد من فلسطين، وكان مروان البرغوثي يدفع هذه الأثمان من عمره ولحمه ودمه، فإعتُقل وطورد وأُبعد.


ولعلّ أهم ما ميّز مروان عنا جميعاً هو ديناميكيته الفائقة، وقدرته على التأقلم في أي واقع يعيشه وكأنه وُلٍدَ فيه، ويستطيع أن يُضفي على المكان رونقاً خاصاً وبهجة، فيأسرك بمحبته مباشرة، وكأنك تعرفه منذ عشرات السنين، فكان خطيباً مفوهاً، يُلهب مشاعر الطلبة والناس أجمعين، وكان لا يهدأ أبداً أثناء قيادته للطلبة في الجامعة، أو أثناء إبعاده إلى خارج فلسطين، حيث استقبلني في الأردن بعد إبعادي وتوطدت علاقتي به كثيراً، فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن نلتقي إما في بيته الدافئ، أو في دوائر منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن، كان مروان شعلة عطاء لا تنطفئ، يعمل في كل الإتجاهات، يقابل القادمين من الأرض المحتلة ويوفّر لهم كل ما يحتاجونه، يستمع إليهم، وينقل همومهم للقيادة حيث كان عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح، وكان الأكثر وفاءً لزملاء التجربة والنضال، لا ينسى أحداً منهم، دائم التفاؤل، والإبتسامة لا تفارقه، ولكنه كان جاداً في عمله ولقاءاته الكثيرة والمثيرة والتي لا يقدر عليها سواه.


وعندما عدنا إلى فلسطين، حيث سبقني قرابة السنتين بالعودة، وجدت إسمه ساطعاً في سماء الوطن، أميناً لسر اللجنة الحركية العليا لحركة فتح، يزور أقاليم الحركة ويتفقد المواقع ويطمئن على سير العمل بهمّة القائد الفذّ. ورغم إيمانه المطلق بالسلام إلاّ أنّ تنكُر الاحتلال للاتفاقيات الموقّعة معه، وعدم تطبيقه لها، جعل مروان يقود إنتفاضة الأقصى بكل اقتدار، لقد فاجأ الجميع بقوته وقدراته وقدرته على قيادة الإنتفاضة، فأصبح قائدها العام بلا منافس. مما جعله هدفاً لقوات الاحتلال، فمحاولات الاغتيال فشلت فكان الإعتقال مجدداً ليبني هناك في عتمة السجون أكاديمية لتخريج أفواج من الأسرى الحاصلين على شهادة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه.


لم يغب مروان البرغوثي عن المشهد السياسي الفلسطيني لحظة واحدة، رغم مرور واحد وعشرين عاماً على اعتقاله، فهو الأكثر حضوراً في المشهد، هو الحاضر الغائب، يحتل المرتبة الأولى في قلوب أبناء الشعب الفلسطيني، ولا أعتقد أن أحداً ينافسه في ذلك.


كم نحن بحاجة إليك بيننا أيها الأخ الحبيب، والصديق الوفيّ، والقائد الملهم، لنقيّم التجربة وننطلق من جديد.