تتعرض وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) إلى محاولات لتقليص خدماتها وشطب هويتها كشاهد إثبات على النكبة التي حلَّت بالفلسطينيين منذ العام 1948.
بدأت إسرائيل مؤامرتها على وكالة الأونروا منذ زمن طويل، ولكنها لم تنجح في تسويق ذرائعها على المجتمع الدولي ومنظماته الأممية التي ترعى هذه القضية، إذ حاولت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من خلال ماكينة الدعاية الصهيونية ولوبياتها العاملة في أمريكا ودول الاتحاد الأوربي تصوير "الأونروا" وكأنها راعية للإرهاب الفلسطيني، وطالبوا بوقف التعاون معها وإنهاء دورها، والادعاء بأنَّ استمرارية بقائها سيعطل إيجاد حلٍّ لقضية اللاجئين والقضية الفلسطينية بشكل عام!!
في الحقيقة، لا تمثل "الأونروا" بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين مجردَ جهةٍ تُقدم الخدمات الإغاثية والإنسانية فحسب، بل هي شاهدٌ تاريخي على تهجيرهم القسري، وما تعرضوا له من مآسي النزوح وأشكال الاحتلال والعدوان منذ أكثر من سبعة عقود. إنَّ هدف الوكالة الأول -كما هو معروف- هو مساعدة وحماية اللاجئين الفلسطينيين، وتأمين العمل لهم في مناطق عملياتها إلى حين التوصل إلى حلِّ عادل لقضيتهم.
من هنا، تتوضح أبعاد التآمر الصهيوني على "الأونروا"، وأن الغرض من وراء محاولات تغييبها من الخريطة السياسية والإنسانية والقانونية هو عملية خبيثة لشطب "حق العودة" لأكثر من ستة ملايين لاجئ.. لقد أوضح هذه المسألة أكثر من مسؤول فلسطيني، بالقول: إنَّ هناك مؤامرة على قضية اللاجئين يقودها اللوبي الصهيوني الذي مارس ضغوطاته على المؤسسات والبرلمانات الحاكمة من أجل دفع حكوماتها للتوقف عن دفع مساهماتها لوكالة "أونروا"، وخلق أزمات مالية لها، دفعتها إلى تقليص خدماتها وإثارة التظاهرات ضدها. أن الخطط والمحاولات للضغط على "الأونروا" هي سياسية بحتة للنيل من قضية اللاجئين وإنهائها بعيداً عن القرارات الدولية. وهذا ما سبق أن اعترف به جون كينج؛ مدير عمليات الوكالة السابق، بالقول: إنَّ "الاونروا" مستهدفة من خصوم الشعب الفلسطيني، وهؤلاء الخصوم يرغبون في إنهاء دورها، كونها تُعّبر عن هوية اللاجئين وتبقى قضيتهم حيَّة.. مشيراً إلى أنَّ حق العودة لن يُنتزع من الفلسطينيين وسيبقى قائماً، طالما كان هناك لاجئون، وأن "الأونروا" ستظلُّ شاهداً على ذلك.
في الحقيقة، لقد نجحت إسرائيل -نسبياً- في محاولاتها التآمرية لتقليص الدعم وخلق بلبلة وأزمات مالية في عهد الرئيس الأمريكي السابق ترامب، وهذا ما أثَّر على صورة "الأونروا" في نظر اللاجئين الفلسطينيين، وخاصة في قطاع غزة، وحرَّك جموعهم للاحتجاج والتظاهر بشكلٍ لافتٍ للنظر، وكانت هناك خشية من إساءة فهم دوافع هذا التذمر، وخروجه بعيداً عما يهدف إليه، وهو إيصال رسائل لتذكير الوكالة بـ"مهمة التكليف" التي تعمل من أجلها.
للأسف، كانت هناك حالات استهداف واتهام لبعض المسؤولين في "الأونروا"، فيما الكثير من السياسيين الفلسطينيين يعلم بأن تداعيات المؤامرة الصهيونية أكبر من طاقة هؤلاء المسؤولين، والذين لم يدخروا وسعاً لتأمين احتياجات "الأونروا" الأساسية وما تتطلبه من ميزانيات تطويرية. وكان من بين هؤلاء الذين طالتهم الاتهامات ظلماً فليب لازاريني؛ المفوض العام الجديد للأونروا، والذي لم يدخر وسعاً في التحرك مع الأوروبيين لجلب المزيد من الدعم لتأمين استقرار الأوضاع المالية في الوكالة، وهذا ما نجح في تحقيقه، رغم تراجع مكانة القضية الفلسطينية في الأجندة الدولية.
ورغم كل أشكال التآمر الصهيوني التي شكلَّت تهديداً وجودياً لوكالة الأونروا، إلا أن ما قام به المفوض العام لازريني من تحركات وحملات لجمع المال للوكالة قد أتت أُكلها، إذ شهد العام 2022 اختراقاً هاماً في مسيرة التمويل المستدام لأكثر من عام، والذي يعتبر واحداً من الحلول الجذرية للازمة المالية للوكالة، إذ شكَّل مؤتمر الدول المانحة الذي عقد في بروكسل نهاية العام 2021 محطة أولى متقدمة باتجاه الحل، وهذا تحولٌ يبعث على الاستقرار والتفاؤل.
شهادة للتاريخ.. لقد حافظ الفلسطينيون سواء عبر هويتهم الرسمية المتمثلة بمنظمة التحرير أو بمجمل القوي والأحزاب والعشائر على بقاء وكالة الأونروا والمحافظة عليها لتبقى كعنوانٍ دولي شاهدٍ علي نكبتهم، وبقيت العلاقات بين المكون الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها وبين رئاسة الوكالة في مناطق عملياتها خلال العقود السبعة الماضية تمتاز بالاحترام والتقدير المتبادل، من أجل تقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين ضمن التفويض الذي تمنحه الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والذي يتم التجديد لها كلّ ثلاث سنوات. من هنا، مطلوب على الإدارة العامة للوكالة وكذلك الجهات المضيفة والمتمثلة بالسلطة الوطنية الفلسطينية وكذلك القوى والفصائل الفلسطينية والحكومة في قطاع غزة المحافظة على هذه العلاقة الدقيقة، من أجل استمرار عمل الوكالة وبقائها حتى تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها.
وتأسيساً على ما سبق، فإن من المهم أن نذكر أنَّ واقع الانقسام الفلسطيني قد أثَّر سلباً علي علاقة الوكالة بالمجتمع الفلسطيني، فمن ناحية رسمية فإن الوكالة ملزمة قانونياً بالمحافظة على قوانين الدولة المضيفة، والتي بموجبها تُطبق الوكالة قرارات السلطة الفلسطينية دون النظر أحياناً الى قرارات وتوصيات الإدارات الحكومية في منطقة عمليات قطاع غزة، ومن هنا تحدث بعض الإشكاليات على الأرض سواء في مجال التعليم أو الصحة، وخاصة أثناء فرض إضرابات محددة للتعبير عن واقع سياسي، فتجد -أحياناً- أنَّ مدارس الحكومة تُعلِّق أعمالها بينما تُلزم الوكالة مدرسيها وطلبتها بالاستمرار في التعليم، وتقديم الخدمات التعليمية والصحية للاجئين الفلسطينيين. وعليه؛ فإنَّ المطلوب منَّا أن نتعامل مع الوكالة بمهنية وبمرونة كبيرة في هذا المجال.
لذا وامام هذا الواقع الذي نعيشه نحن الفلسطينيين، فإنَّ من المهم أخذ الأمور التالية في الحسبان:
أولا؛ يجب علينا كفلسطينيين المحافظة على استمرار عمل الوكالة، فهي الشاهد الوحيد على نكبتنا، ويكون ذلك بتسهيل عملها، وعدم شيطنتها والتفهم لبعض مطالباتها.
ثانيا؛ الإبقاء على خط ساخن للتعامل مع الوكالة يمثله شخصية واعية ووازنة تعرف جيداً طبيعة عمل المؤسسات الدولية، وتجيد بمهنية تذليل أي عقبات قد تحدث أثناء تنفيذ الوكالة لعملياتها.
ثالثا؛ على الإدارات العليا للوكالة أن ترسم سياستها بنوع من المرونة والتفهم فيما يتعلق بميول موظفيها الطبيعي، عليها أن تتفهم أنَّ المشكلة الفلسطينية ما زالت لم تجد الحل بعد، وأنَّ الفلسطيني له أمنيات وطنية وشعور وطني يسكن وجدانه، وهو مولع بحب وطنه قبل أن يعمل في الوكالة كموظف.
إنَّ المراقب لعمل الوكالة خلال تاريخها الطويل يلاحظ أنه مرَّ عليها إدارات قوية كانت تدافع عن الحق الفلسطيني بقوة في المحافل الدولية، وكانت لا تسمح لبعض المؤسسات التي قد ترتبط بأجندات خاصة النيل من سمعة الوكالة وحياديتها وحيادية موظفيها.
في الختام أقول: إنَّ وكالة الأونروا تُقدم خدمات كبيرة للشعب الفلسطيني تعجز عن تقديمه المؤسسات الفلسطينية الرسمية أو حتى الأحزاب والقوي الفلسطينية.. من هنا، مطلوبٌ المحافظة على الوكالة وعلى بقائها، فالمؤامرة عليها وعلى وجودها كبيرة جداً. وكفلسطيني لاجئ، فإن الأونروا تمثل لي أمي وأبي، والقلم الذي سطَّر وعيي وثقافتي، والمثابة الآمنة التي حفظت كرامتي ومنحتني مكانة بين الشعوب والأمم، وما زالت تحفظ في سجلاتها أهم وثيقة تخصني كفلسطيني وهي "حق العودة".