«نظرة عليا» : إسرائيل تتجه إلى منزلق: تحول الجيش إلى لاعب سياسي

حجم الخط

بقلم: كوبي ميخائيل*


التهديد برفض التطوع، الذي في نظر القيادة السياسية وأجزاء واسعة من الجمهور وحتى في أوساط الخادمين في الجيش يعد رفضاً لذاته، معناه معمعان خطير.
فالجيش، الذي بغير إرادة القيادة العسكرية العليا وبغير مبادرتها، ولكن صراحة كنتيجة لإدارة مغلوطة للتطورات في الجيش في أعقاب الأزمة السياسية، أصبح بذاته لاعباً سياسياً. فضلاً عن ذلك فإن التهديد بالرفض تبين كمؤثر للغاية في الساحة العامة في واقع من الجدال المدني – السياسي القيمي.
الحدث والتصرف حوله شق الديمقراطية الإسرائيلية كونها مست بالإجماع العام حول الجيش ومكانته كغير سياسي، وقضمت ليس فقط من علاقات المستويات القيادية بل أيضاً من علاقات الجيش والمجتمع في الدولة.
من الآن فصاعداً من شأن الجيش أن يجد نفسه مضطراً لأن يتصدى لرفض منظم – عملياً – من بين خادمي الاحتياط بل وربما جنود النظامي بالنسبة لمسائل مدنية – سياسية ووطنية أخرى. إضافة إلى ذلك، فإن هذا منحدر سلس سيميز العلاقات المتوترة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية.
ظاهرة التهديد بالرفض من جانب طياري سلاح الجو في الاحتياط، رجال الاحتياط في منظومة العمليات الخاصة ومنظومة السايبر، حتى لو وصف هذا بأنه «رفض غامض، كون الطيارين أعلنوا أن في نيتهم أن يتوقفوا عن التطوع لكن لن يرفضوا النداء لخدمة الاحتياط في غير إطار التطوع، هو مثابة مغسلة كلمات بالتأكيد في نظر القيادة السياسية في أغلبيتها الساحقة وفي نظر قسم كبير من الجمهور.
المنظومات الثلاث المذكورة التي هي في لباب عمليات وهجمات الجيش الإسرائيلي، هكذا على الأقل في الوعي الجماهيري المستند إلى التقارير في وسائل الإعلام، تعتمد على رجال الاحتياط ونموذج خدمة الاحتياط على أساس التطوع والذي لا يشبه نموذج خدمة الاحتياط العادي.
في نموذج هذه الخدمة ترسل أوامر التجنيد بعد أن يكون المتطوعون اتفقوا مع قادتهم على أيام الخدمة لكن عملياً من اللحظة التي يكونون تطوعوا فيها وتلقوا أمر الاستدعاء – تكون هذه خدمة احتياط بكل معنى الكلمة. وبالتالي فإن كل إعلان نوايا لوقف التطوع هو مثابة تهديد بالشلل لكل تلك المنظومات أو عرقلة كبيرة لها وكذا مس بنموذج الخدمة الخاص. من حيث الجوهر هذا رفض بالفعل.
حتى لو كان ممكناً تفهم الاعتبارات التي وجهت قائد سلاح الجو، رئيس الأركان وغيرهما في هيئة الأركان العامة في كل ما يتعلق بمعالجة الظاهرة – الرغبة والإيمان في أن يكون بوسعها أن تحل المشكلة من الداخل، تهدئة المخاوف ومنع اتساع الظاهرة من خلال رد فعل قاسٍ وعقاب – لن يكون من الصواب تبريرها والتقليل من خطورتها. فالخطوة التي قادها ضباط وجنود الاحتياط كانت جماعية ومنظمة، بلغة علم الاجتماع. فلا يدور الحديث عن قرار فردي لرجل الاحتياط هذا أو ذاك. وحتى لو تجاهلنا الالتواءات اللفظية والقضائية بالنسبة لجوهر العمل الجماعي كتحريض على التمرد مثلما يمكن تعريفه بتعابير المنظومة العسكرية أو قراءة المادة 136 من قانون العقوبات حول مخالفة التحريض على التمرد، حتى لو لم يكن الفعل يتناسب وتعريف التحريض على التمرد، فإن من قادوا عملية تنظيم الربط فهموا جيدا معاني خطواتهم. فقد جندوا الخلفية، التجربة، السمعة العسكرية، الخبرات العسكرية وخدمة الاحتياط الحيوية التي يقدمونها، للإعراب عن احتجاج في موضوع مدني، سياسي في جوهره، دون أن يصدر لهم أمر غير قانوني على نحو ظاهر ودون أن يكون بوسعهم أن يقرروا بيقين أن في مجرد تحقيق الإصلاح القضائي الذي تقوده الحكومة سيوضعون أمام وضع يصدر لهم فيه أمر غير قانوني على نحو واضح، أمر يرفرف فوقه علم أسود وبالتالي يستوجب الرفض.
لقد أثرت الخطوة عميقاً على الجيش كله وتسللت أيضاً إلى صفوف الجيش النظامي – الإلزامي والدائم، وأدت إلى هز أعمدة الأركان.
لقد وقفت القيادة السياسية، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، على خطورة الموضوع وطلبت من وزير الدفاع يوآف غالانت ومن القيادة العسكرية معالجته، غير أن القيادة العسكرية لم تنجح في احتواء الحدث أو إيقافه وأخطرت القيادة السياسية حول خطورة الحدث وتداعياته الخطيرة بسبب المس بالأهلية العملياتية للجيش والخوف الحقيقي من اتساع الظاهرة إلى عموم الجيش.
هكذا نشأ معمعان خطير. الجيش، الذي بغير إرادة القيادة العسكرية العليا وبغير مبادرتها لكن بصراحة كنتيجة للإدارة المغلوطة للتطورات، أصبح لاعباً سياسيـاً، مؤثراً للغاية في الساحة العامة في واقع من الجدال المدني – السياسي – القيمي. نشأت سابقة: لأول مرة، وبشكل واضح، الجيش هو الذي يقود عملية استخدام للأمن (Securitization)، التي جوهرها هو استخدام حجج عسكرية – أمنية لتجسيد الإمكانية الكامنة للتهديد المتعلق بمسألة مدنية، كمبرر لاستخدام وسائل متطرفة لغرض معالجة التهديد، في هذه الحالة - تعليق عملية تشريع الإصلاح القضائي الذي تقترحه الحكومة.
إن خطورة الحدث والمسؤولية عن تطوره تقع أيضاً على القيادة المدنية، التي فشلت في تفعيل رقابة مدنية فاعلة على الجيش، أي إخضاع التفكير العسكري للتفكير السياسي بالمعنى المبسط للفكرة، وإخضاع الجيش التام للقيادة السياسية بالمعنى الأساسي للفكرة. الدليل على ذلك هو في تغيير سياسة قائد سلاح الجو ورئيس الأركان بروح تعليمات رئيس الوزراء ومطالبه بعد وقوع الفعل.
في اختبار النتيجة، عملية التشريع علقت بسبب الخطاب الشاذ لوزير الدفاع الذي وقف على خطورة التهديدات الأمنية من جهة وعلى الضرر اللاحق بالجيش وأهليته العملياتية من جهة أخرى.
عملياً، وفرت القيادة العسكرية، بغير إرادتها وكنتيجة لإحساس حاد بالضائقة بسبب أزمة حقيقية في صفوفها دعماً إسنادياً مهماً للاحتجاج المدني ضد اقتراح الإصلاح ودفعت القيادة السياسية لأن تعمل بخلاف نيتها الأصلية.
في هذه الحالة، فإن الجيش وإن كان أيضاً بشكل محدد أكثر خادمي الاحتياط في المنظومات الحيوية، أصبح متماثلاً مع الاحتجاج المدني ومعسكر المعارضين للإصلاح القضائي.
لقد أدت الأحداث والسلوك ما بعدها إلى موجات صدى في المنظومة العسكرية.
فمثلاً توجه مقدمو الخدمة الفنية في سلاح الجو إلى رئيس الأركان وقائد سلاح الجو وأعربوا عن استيائهم من سلوك طياري الاحتياط بل وطالبوا باعتذار الطيارين لهم، معربين عن إحباط عميق من المعاملة التمييزية تجاههم وتجاه مواقفهم. وحتى لو كان هناك من يعزو هذه المحاولات المضادة لجهات من الساحة السياسية ففي ذلك أيضاً ثمة ما يشهد كم هو المنزلق خطير وكم ابتعد الجيش عن مكانته الإلزامية كغير سياسي.
فضلاً عن ذلك، فإن سلوك الجيش في هذا السياق يؤدي إلى شرخ عميق في علاقاته السياسية بسبب المس الخطير بثقة القيادة السياسية بالقيادة العسكرية وبسلوكها بالنسبة للأزمة وسيكون في ذلك ما يؤثر على علاقات القيادتين لاحقاً.
الحدث والسلوك أيضاً شرخا الديمقراطية الإسرائيلية لأنهما مسا بالإجماع الجماهيري حول الجيش ومكانته كغير سياسي، بالتأكيد بالنسبة لجزء من منظوماته المهمة وكذا بالنسبة للقيادة العليا التي اعتبرت كمن أيدت أو على الأقل احتوت الرفض وبالتالي شخصت كمعارضة للإصلاح رغم أنها لم تعبر عن ذلك. وبالتالي فإن الضرر ليس فقط في العلاقات بين القيادتين بل وأيضاً في علاقات الجيش مع المجتمع في إسرائيل وبمكانة الجيش في نظر المجتمع الإسرائيلي.
من الصعب الافتراض، في الظروف الناشئة أنه لن يكون للأمور تأثير على نموذج تجنيد الجيش وعلى مكانته كجيش الشعب التي تآكلت على أي حال في السنوات الأخيرة. فتهديدات الرفض المنظم، وأكثر من ذلك، اختيار القيادة العسكرية لاحتوائها، أثرت على وزير الدفاع لأن يدعو إلى تعليق التشريع، ووضعت بنية تحتية لاحتجاجات وتهديدات الرفض التالية في الجيش. ولما كانت التهديدات الأمنية الخارجية موجودة على أي حال، ما كان لوزير الدفاع لأن يدعو إلى تعليق التشريع لولا الحدث موضع الحديث، والذي عظم التهديدات الخارجية بسبب خطر تأثيره على الأهلية العملياتية للجيش وعلى إمكانية أن يفسر أعداء إسرائيل هذا الضعف كفرصة لمهاجمتها.
من الآن فصاعداً من شأن الجيش أن يجد نفسه يضطر لأن يتصدى لرفض منظم، ربما في أوساط فئات سكانية أخرى من خادمي الاحتياط بالنسبة لمسائل مدنية – سياسية ووطنية أخرى.
إن تداعيات هذا المنزلق السلس هي بالضرورة جيش أكثر مشاركة في مسائل مدنية – سياسية وعلاقات متوترة أكثر بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية.
بالشكوك وانعدام الثقة يصبح من الصعب على القيادة السياسية أن تقبل بمواقف الجيش المهنية كعديمة الأجندة أو كموقف سياسي – قيمي.
سيكون في ذلك ما يشوش طبيعة الخطاب بين القيادتين وبدلاً من مجال خطاب مفتوح – باعث على التحدي، حر، هو أيضاً مجال تعلم مشترك للقيادتين اللتين تتقاسمان فيما بينهما المعركة وتتحديان الواحدة مع الأخرى، سينشأ خطاب مغلق، ملجوم، تراتبي وعديم التعلم المشترك.
ما أن تحطم السد، فإن القيادة السياسية ستقف أمام مخاوف من مظاهر رفض كهذه أو تلك.
من الآن فصاعداً، سيكون من الصعب على القيادة السياسية أن تعتمد على الجيش كمن هو قادر على أن يضع كل قدراته وكفاءاته المهنية لتحقيق خطوة عسكرية غايتها تنفيذ غاية سياسية استراتيجية قررتها القيادة المدنية المنتخبة.
بالشك من جانب القيادة السياسية المنتخبة تجاه القيادة الأمنية والجيش نفسه ينطوي ضرر جسيم بالديمقراطية الإسرائيلية – بالرقابة المدنية كمدماك أساس في علاقات القيادة السياسية والقيادة العسكرية في الدولة الديمقراطية وبلاسياسية الجيش الضرورية في نظر القيادة السياسية والمجتمع.
لأجل بدء عملية إشفاء ضرورية للديمقراطية الإسرائيلية في كل ما يتعلق بعلاقات الجيش – المجتمع وعلاقات القيادة السياسية – القيادة العسكرية، ضروري أولاً فهم خطورة المشكلة وعمق الشرح. كل محاولة لتجميل الأمور أو تقزيم حدتها ستحبط عملية الإشفاء الصحيحة التي ستكون في كل حال مركبة، قاسية وطويلة.

عن «نظرة عليا»

*معهد بحوث الأمن القومي