السودان: كلفة لعبة التنميط الخطرة ...!

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

 

كان العم سعيد الذي عرفته السودان في ثمانينات القرن الماضي قد تعاقد للعمل في ليبيا بعدما أدار بنجاح نادي الخرطوم لكرة القدم، كان عمر البشير أحد أعضاء النادي، وحين قرر العم سعيد بناء سور النادي كان البشير أحد العمال الذين ساهموا في البناء، وعندما جاء نبأ الانقلاب العسكري إلى طرابلس قال العم سعيد: «عمر لا يصلح إلا لحمل القفة» وهي الوعاء الذي كانوا يحملون به الإسمنت.
غادر العم سعيد ليبيا فوراً لزيارة مرؤوسه السابق ليبحث عن السر، غيرَ مصدق أن عمر البشير قادر على القيام بهذا العمل الكبير. ولأن البشير في نظره لا يصلح للسياسة قال «مشيت له القصر وقلت له «مين وراك يا عمر» ؟ تلكأ البشير في الإجابة محاولاً أن ينسب لنفسه صناعة التاريخ، وبعد إلحاح العم سعيد أجاب البشير: «حسن الترابي».
من هنا بدأت القصة بمغامرة الترابي التي خلفت كل هذا الدمار على السودان، وبات واضحاً أن تلك البذرة التي زرعها حرقت خصوبة النيل على طرفيه، وفي كل الأماكن التي كان يجري فيها وادعاً ومطمئناً وسط شعب هو الأكثر طيبة وأخلاقاً وبراءةً بين الشعوب العربية.
استدعى الترابي لانقلابه الرائد في بحرية بورسودان وتلميذه الذي خانه لاحقاً ووضعه في السجن كما كل التاريخ العربي ليضعه على رأس السلطة، لتبدأ أسوأ مرحلة في تاريخ البلاد بالقيام بانقلاب عسكري على حكومة كان الشعب السوداني قد مارس حقه الديمقراطي في انتخابها، وسلمت البلاد للعسكر وهو ما يستمر حتى اللحظة بين تلاميذ البشير، حمدان دقلو وعبد الفتاح البرهان اللذين يتصارعان على السلطة في استمرار لمسلسل معلميهم الأوائل.
لثلاثة عقود جلس الرجل الذي «لا يصلح إلا للقفة» ليدير بلاداً من أعقد البلاد العربية نظراً للتنوع الهائل في ثقافات شعبها ومجموعاتها السكانية وأديانها المتشابكة حد التداخل، فقد تعايشت على أرضه الوثنيةُ والإسلام والمسيحية ليجترح السودان طريقه الفريد والخاص. فقد لعبت التركيبة السكانية دوراً هاماً في تكوين الهوية المتفردة للسودان، والتي كانت تستدعي السير على حافة الهاوية في العلاقة مع كل مكونات البلد وخطر سيطرة إحداها على باقي المكونات، لأن الأسئلة الصعبة ما زالت حية وتعكس حساسية هذا التنوع الكبير على نمط: هل السودان عربي؟ أو هل السودان إسلامي؟
لم يدرك ثنائي الترابي - البشير أن لعبتهم كانت على هذه الدرجة من الخطورة، وتكمن خطورتها في هيمنة ثقافة محددة على شعب بهذا الثراء من التنوع، سواء كانت تلك الثقافة قومية أو ديناً. فالأول كان مصاباً بعمى الأيدولوجيا والثاني كان مصاباً بلوثة السلطة مفتقراً للكفاءة ومؤهلات السياسة التي أدخلت السودان في حقبة هي الأكثر سواداً في تاريخه، سواء على مستوى الإدارة أو الاقتصاد أو العبث بهوية البلد. ولكن الأهم أنها أزاحت الشعب السوداني جانباً وافتتحت حقبة حكم العسكر الذي امتد لأحفاد الترابي وأبناء البشير الذي أعاد هيكلة الدولة لتصبح موالية له ولحكم الإسلاميين. فمنذ الانقلاب كان جميع خريجي الكليات العسكرية من حزب الترابي، ليصبح كل ضباط الجيش الآن من هذا الاتجاه، أما دقلو المعروف بحميدتي فقد استدعاه البشير ليكون يده الضاربة ضد أبناء الوطن مهما كلف من مذابح، ولحراسة الحكم.
فعل حميدتي بالبشير ما فعله الأخير بالترابي، ما فعله البشير بالترابي هو ما فعله الترابي بالشعب السوداني عندما انقلب على خياره. تلك كانت لعبة الاتجاه الإسلامي الخطرة الذي يقف بكل مكوناته إلى جانب البرهان الذي يتحمل مسؤولية ما يدور حالياً بعد انقلابه على المكون المدني كما جاء في اتفاق تقاسم السلطة والذي تعزز في اتفاق جوبا، فقبل تسلم المكون المدني للسلطة بشهر قام البرهان باعتقال رئيس الوزراء حمدوك وعدد من الوزراء وقادة الأحزاب السياسية والسيطرة على مبنى التلفزيون واعلان حالة الطوارئ، في انتكاسة هي الأصعب شكلت انقلاباً على الثورة وأعادت مرة أخرى عزل الشعب السوداني عن الحكم.
تداخلت خطوط الأزمة بأبعادها الإقليمية والدولية وباصطفافاتها، حيث كلُّ يبحث عن مصالحه، وبينها اسرائيل التي تمد خيوطها مع طرفي الأزمة، لكنها بالأساس تعلق مشروع التطبيع بشخص البرهان الذي تدعمه القوى الإسلامية المعارضة للتطبيع، هذا واحد من تناقضات اللحظة وإن كان حميدتي شريكه في هذا الملف، لكن تناقضات القوى الكبرى أكثر وضوحاً حيث الصراع الدائر في أوكرانيا يجد صداه على ساحل البحر الأحمر بين القوتين العظمتين ما بين قدم روسيا التي تمتد عبر حميدتي وإبعادها من المكان بقوة البرهان.
مصر التي تقف بين خيارات صعبة في الملف السوداني وجرى إبعادها رغم ملكيتها مفاتيح البلد منذ الوحدة بينهما ومعرفتها بالمكونات العرقية والقبلية، ورابط النيل الذي ساهم بصناعة هوية ضفافه المشتركة تجد نفسها مضطرة للاصطفاف مع البرهان رغم اتجاهه الإسلامي الذي يناصبها العداء حفاظاً على تماسك الدولة، وحتى لا ينفرط عقدها وضامنه الجيش أفضل كثيراً من مليشيات حميدتي غير المماسسة ونموذج المذابح التي نفذتها في دارفور، كما أن حميدتي قريب للرئيس الأثيوبي بما يؤثر على مشروع سد النهضة ومجرى النيل، وهذا خط أحمر وأمن قومي بالنسبة لمصر، ما يضطرها لابتلاع البرهان.
كيف بدأت المسألة؟ انقلاب على الشعب منذ أكثر من ثلاثة عقود، والعبث بهويته ومحاولة تنميطه بعملية جراحية عسكرية ظهر فشلها مبكراً، لا حل للسودان إلا بعودة السلطة للشعب وإقامة دولته التي تحترم الخصوصيات الثقافية والتنوع العرقي، وبغير ذلك سيستمر النزيف، لأن أصعب الحروب هي حروب الهويات، وكلمة السر إبعاد العسكر عن السلطة وإغلاق الصفحة في تاريخ السودان الذي يستحق شعبه الطيب والمثقف حياة كريمة.