التّدريجية كأساس للتّفاهمات على خريطة طريق لسوريا؟

حجم الخط

بقلم راغدة درغام

تكثر الاجتهادات والتأويلات في محاولات فهم الاندفاع العربي لإعادة تأهيل سوريا في أعقاب الاتفاقية السعودية - الإيرانية برعاية وضمانات صينية، علماً أن أولى خطوات الانفتاح الكبير على الرئيس السوري بشار الأسد سبقت الحدث الثلاثي قامت بها الإمارات، فيما سعت مصر منذ فترة وراء تمهيد عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية. أين تقع علاقة الأسد بكل من روسيا وإيران و"حزب الله" في شروط هذه العودة وظروفها؟ وهل تُصاغ اليوم بنودٌ لخريطة طريق تؤدي الى صفقة متكاملة وليس مجرد احتفائية تجميلية لعودة الأسد إلى الحضن العربي؟

 

السعودية ستستضيف القمة العربية الشهر المقبل، وقد بدأت بإعداد جدول أعمال القمة بالبراغماتية التي ترافق الرؤيوية، كما تبنتها القيادة السعودية بنهجها الجديد. الذين يعرفون الأداء السعودي يدركون أنه بعيد من الارتجالية، وأن رسائل الرياض متماسكة حتى في اقتضابها أو غموضها. وبحسب دبلوماسي خليجي ضليع في شؤون مجلس التعاون الخليجي، فإن الدبلوماسية الخليجية، وبالذات السعودية، تبني سياساتها ضمن مفهومها لحدود الممكن وحدود المستحيل.

رأيه أن الخوف من تقسيم سوريا ومن تزايد النفوذ الإيراني والروسي والتركي هو المحرّك وراء الاندفاع الخليجي نحو إعادة تأهيل الأسد، وأن خريطة الطريق تتضمن الأفكار العمليّة لتحسين الأوضاع الداخلية، وإنقاذ المعارضة السورية، والحد من النفوذ الإيراني "ضمن حدود الممكن، وتدريجياً".

 

يضيف الدبلوماسي المخضرم أن الدول الخليجية لن تقبل بتعزيز الأسد إذا لم ينفتح على المعارضة ويحسّن الأوضاع الداخلية، وهذه الرسالة واضحة لدمشق. أما لجهة العلاقات مع إيران، فيعتقد الخليجيون أن الفرصة مُتاحة لتقليص نفوذ إيران في سوريا، بالتدريج، وبرضى بشار الأسد، لأن استمرار السيطرة الإيرانية لا يخدم سوريا، ولا يخدم الأسد، ولا يخدم الطائفة العلوية.

 

بكلام آخر، إن بشار الأسد في حاجة للتفلّت تدريجياً من القبضة الإيرانية، لأنه ليس قادراً على السيطرة على سوريا في ظل الهيمنة الإيرانية. وعليه، فإنه قد يجد في استعادة الارتباط عربياً وسيلة إنقاذ له بعدما تورّط في اعتماده الكلّي على إيران وعلى روسيا، لكن تدريجياً، وفي إطار صفقة إقليمية.

 

ما تقدّمه الدول العربية للأسد يشمل التعهد بإعادة إعمار سوريا بأموال عربية، وأن يكون فك العزلة عن سوريا جسراً لسوريا إلى العالم. يشمل أيضاً العمل الجماعي على تطويق النفوذ التركي بالتدريج، وليس فقط النفوذ الإيراني. وفي الرأي الخليجي، فإن الوجود العربي في سوريا يطمئن السوريين، وإن من مصلحة الأسد الانتقال إلى خانة طمأنة شعبه بدلاً من استمرار العداء معه. كل هذا مقابل "الالتزام" المكبّل من قِبل الأسد. فهذه عناصر صفقة وليست مزاج نزهة.

 

المطلوب من الأسد لجهة علاقاته مع "حزب الله" الذي حارب بجانبه ضد المعارضة السورية وبات فاعلاً وشريكاً ميدانياً مع إيران والنظام في دمشق، هو "فك الارتباط" تدريجياً، كجزء من الصفقة. الرأي الخليجي هو أن على سوريا، وليس فقط على إيران، أن تكفل عدم تمكين "حزب الله" من التمدّد في الدول العربية، وأن هذا يقتضي من رئيس النظام السوري "فك الارتباط" بينه وبين "حزب الله" تدريجياً. وبحسب تعبير مسؤول خليجي سابق، إن "حزب الله" "ظاهرة" طال عمرها طويلاً.

مصدر روسي مطّلِع على التفكير الإيراني نحو سوريا وتجاه الاتفاقية الثلاثية السعودية - الصينية - الإيرانية، يرى أن إيران ستسمح ببعض التغيير السياسي في سوريا، وأن روسيا لا تمانع لأن موسكو ترى في سوريا عبئاً يُثقلها اليوم وهي في حاجة للتركيز على الحرب الأوكرانية. معلوماته أن إيران ستتنازل عن بعض نفوذها لكن ليس عن وجودها العسكري في سوريا.

 

اللافت في معلومات هذا المصدر، أن إيران تفكّر في كيفية تحويل "حزب الله" إلى "أداة سياسية" بدلاً من بقائها "أداة ثورية عسكرية". كيف؟ يقول الدبلوماسي الروسي السابق إن النظام في طهران يدرس كيفية تطوير وتعميق "دمج" "حزب الله" وشركائه وأمثاله من أتباع طهران "في الحياة السياسية" للدولة المعنية.

 

هذا وارد إذا تم الاتفاق على الصفقة المتكاملة. فـ"حزب الله" في رأي الدول الخليجية عدو مخرّب لها ولأمنها، ولجمه حاجة أساسية في الصفقة والتفاهمات.

لماذا قد تقبل طهران بهذا التغيير الجذري؟ يتفق الرأيان الخليجي والروسي على أن إيران في حاجة للخروج من الوضع الاقتصادي القاتم، ومن الأزمة النووية التي تجعلها معرّضة للمواجهة العسكرية، ومن العزلة السياسية. ولذلك قد تتقبّل التنازلات الضرورية في إطار صفقة التطبيع مع الدول الخليجية وما يترتب عليها من إنقاذ اقتصادي كما من إمكانية انفتاح الولايات المتحدة على رفع العقوبات عنها، إذا نفّذت التزاماتها ولطّفت سلوكها جذرياً.

 

إدارة الرئيس جو بايدن مستاءة جزئياً من هذه التطورات في منطقة الشرق الأوسط، حيث تبدو الصين في القيادة، لكنها في الواقع ليست مستاءة كلياً. والسبب هو أن هذه الإدارة ترحّب بأي ما يمكّنها من تجنب المواجهة العسكرية مع إيران.

 

ثم إن الرعاية الخليجية لتحويل مسار سوريا نحو البيئة العربية بعيداً من النفوذ الروسي والتركي والإيراني أمر لا يثير اعتراض واشنطن، بل العكس. هذا إضافة إلى ترحيب إدارة بايدن بأن تحل الدول العربية مكان عملية "أستانا" التي تضم روسيا وتركيا وإيران، في رعاية الحلول السياسية الداخلية في سوريا، بالذات نحو إقناع الأسد بالتنازلات أمام المعارضة.

 

إسرائيل مهمة لإدارة بايدن في المعادلة السورية إذا نجحت جهود دول عربية طبّعت مع إسرائيل في خلق الأجواء التي تؤدّي إلى التحاق سوريا، تدريجياً، في عملية فك الاشتباك الشامل مع إسرائيل، والوصول إلى مرحلة السلام والتطبيع. ذلك أن العنوان الأوسع والأعمق لاستراتيجية دول خليجية فاعلة هو الابتعاد من المواجهات ومعالجة الخلافات وحل النزاعات في كامل منطقة الشرق الأوسط، تدريجياً وبدبلوماسية جديدة نوعياً.

 

الدبلوماسية السعودية أوضحت تطلّعاتها على مستوى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عندما تحدّث في مؤتمر FII عام 2019 عن "حلم" يعتزم تحويله إلى واقع، حلم تحويل منطقة الشرق الأوسط إلى أوروبا جديدة بعيدة من النزاعات الأيديولوجية والسياسات المتطرفة. ثم في اختتام قمة جدّة للأمن والتنمية بمشاركة قادة وزعماء دول مجلس التعاون والولايات المتحدة ومصر والعراق والأردن منذ حوالي سنة، أكّد رؤية تضع في أولوياتها تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار، داعياً إيران إلى التعاون مع دول المنطقة لتكون جزءاً من هذه الرؤية. استضافة السعودية للقمة السعودية في مايو (أيار) تشكل موعداً مهماً في إطار التنفيذ البراغماتي للرؤية، لا سيما في أعقاب الاتفاقية السعودية - الإيرانية - الصينية، وسوريا تشكل محطة امتحان.

 

إذا صدقت التوقعات بجهوزية بشار الأسد لاستبدال اعتماده على روسيا وإيران و"حزب الله"، بانفتاحه على الإصلاح الداخلي والتحاور مع المعارضة وفتح أبواب سوريا لعودة المهاجرين السوريين إليها، تكون الدبلوماسية الخليجية قد أحدثت انقلاباً في فكر الأسد واستراتيجيتها. بغضّ النظر إن اندفع الأسد نحو هذا التغيير الجذري، أو إن دُفِعَ إليه، إن نتائجه، في حال اعتماده حقاً وصدقاً، ستكون ذات فوائد لسوريا وللدبلوماسية الخليجية. لكنّ العبرة في التنفيذ.

 

لن يكون سهلاً على الأسد، حتى ولو اقتنع، أن يستأذن الانفصال عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي هي شريك استراتيجي له ولأبيه. روسيا قد تعطيه الإذن للاستقلال نسبياً عنها لأن المبادرة العربية نحوه تريدها روسيا وسعت وراءها، ولأن العلاقات الروسية - الخليجية توسّعت والمصالح الروسيا تقتضي التركيز على أسواق النفط بدلاً من التمسك بما بات اليوم عبئاً عليها، فيما بالأمس كان أولوية استراتيجية.

 

إيران أكثر تعقيداً وحذاقة، ثم إن "الحرس الثوري" ليس جاهزاً لفسخ عقده مع النظام في دمشق ولا مع "حزب الله" في لبنان. وهنا تكمن المشكلة. الأمر أكثر تعقيداً لأن السيطرة الإيرانية على سوريا هدف استراتيجي للنظام في طهران، وقادة الحرس الثوري غير متحمّسين للمشاركة في تنفيذ اضمحلال النفوذ الإيراني في سوريا.

 

"تدريجياً"، يقول الذين يقرأون بين سطور الصفقة المتكاملة التي تُدرَس وما زالت قيد الإعداد. حسناً، فليكن التأنّي بوصلة نحو الثقة. ولتكن الثقة بوصلة الامتحان.