مع بدء الانحسار التدريجي للمنخفض الجوي الحالي في بلادنا وما رافقه من تنبؤات ومن ضجيج ومن تحضيرات وحتى من حالة هلع واضطراب، يبدو أننا بدأنا بالاعتياد على المنخفضات الجوية الحادة والثلوج، والتي بدأت تصل إلينا تقريباً كل عام، وهذا شيء جديد مقارنة مع الأعوام الماضية، أي قبل عشرة أو حتى خمسة أعوام.
ومع انحسار ربما أكبر عاصفة جوية ضربت أجزاء من الولايات المتحدة وسببت دماراً بشرياً ومادياً هائلاً، ومع الأنباء التي أصبحت عادية عن فيضانات وأعاصير وجفاف وتصحر في أماكن عديدة في العالم، مع كل ذلك أصبحت التغيرات أو التقلبات البيئية والمناخية، والتي تمت وتحدث بفعل نشاطات البشر أمراً واقعاً وعادياً، وأصبحت أهمية اتخاذ إجراءات عملية لحماية المزيد من التدهور البيئي والمناخي ضرورة عالمية، بعيداً عن النظريات وعن المهاترات والمصالح السياسية والاقتصادية للدول التي لها باع طويل في بث الغازات إلى الجو أو التلوث البيئي.
وحين تكون المصادر الطبيعية، من مياه وأرض وإنتاج زراعي وتنوع حيوي مصادرَ محدودة ومقيدة الاستعمال ومتنازعاً عليها، وحين تكون المساحة الجغرافية ضيقة ومتنازعاً عليها وبشدة، وحين تكون كثافة البشر في تلك البقعة مرتفعة وربما من أعلى النسب في العالم وخاصة في قطاع غزة، وحين يكون ازدياد البشر وبالتالي نشاطات البشر وما ينتج عن ذلك من نفايات وبأنواعها في تصاعد مستمر، حين يكون كل ذلك متواجداً في بيئتنا الفلسطينية، فإن العمل من أجل حماية البيئة هذه الأيام وللأجيال القادمة يعتبر أولوية وطنية، سواء أكان على الصعيد الرسمي، أو من خلال منظمات المجتمع المدني، أو الجامعات والمدارس والبلديات، وصولاً إلى المواطن الفلسطيني.
وفي المدن والقرى وما بينهما في بلادنا، ما زلنا نشاهد من يرمي النفايات المتنوعة في الشوارع، وما زلنا نرى رمي النفايات من السيارات، وما زلنا نرى حرقها في الأماكن العامة، وما زلنا نستخدم المبيدات الكيميائية بشكل مكثف ولا نلتزم بما يعرف بفترة الأمان للمبيد، ونقطف المحصول ونبيعه إلى المستهلك بما يحويه من مواد كيميائية، وما زلنا نرى الأرقام التي تشير إلى التصاعد المستمر في نسبة الأمراض المزمنة عندنا، وبالأخص أمراض السرطان.
وما زالت مياه المجاري وليست فقط المياه العادمة المكررة، تصب في المناطق المفتوحة، وربما تستخدم لري بعض المحاصيل التي في المحصلة تصل إلى أفواه المستهلك، وفي قطاع غزة، أصبحت المياه الجوفية مالحة وربما ملوثة وما زالت التقارير المحلية والدولية، تشير إلى أن أكثر من 95% من مياه غزة ملوثة، وبالإضافة إلى ذلك ما زالت المستوطنات الإسرائيلية تساهم بشكل أو آخر في تلويث وتحطيم البيئة الفلسطينية، حيث ما زلنا نسمع عن مجاري المستوطنات والمياه العادمة تصب في قرى سلفيت وبيت لحم والخليل ورام الله.
وبعيداً عنا، بدأت دول حققت نمواً اقتصادياً بشكل سريع، مثل الصين والهند والبرازيل، تلمس الآثار الكارثية على البيئة، فنفايات المصانع ودخانها والمخلفات العشوائية للبنايات أدت إلى تلوث الهواء والمياه والتربة، حتى بات لا يمكن السير في شوارع في بعض المدن الصينية دون كمامات، أو شرب المياه المعبأة أو باستخدام فلتر.
والوضع نفسة في الهند، حيث يمكن ملاحظة الآثار البيئية والصحية الوخيمة التي يحدثها الاستخدام المكثف للمواد الكيميائية في الزراعة من مبيدات وأسمدة وبلاستيك، وأصبحت ولاية البنجاب الهندية مثلاً - التي تعتبر السلة الغذائية لأكثر من مليار إنسان - تشهد انتشار أمراض السرطان والتشوهات الخلقية.
والمطلوب تفعيل وحشد وتنسيق طاقات وإمكانيات الوزارات والمؤسسات الرسمية العاملة في مجال حماية البيئة، من وزارات: البيئة والصحة والاقتصاد والمواصلات والزراعة والعمل وسلطة المياه والطاقة، وغيرها، بشكل يجعل الاستفادة من أدوارهم لأجل خدمة الموا طن الفلسطيني وحماية البيئة الفلسطينية بالحد الأقصى.
والمطلوب كذلك العمل على تنسيق وترشيد اتفاقيات ومشاريع وبرامج جهات غير رسمية كثيرة تعمل في مجال البيئة، مع الجهات المانحة، سواء أكانت دولاً أو منظمات دولية تتبع الأمم المتحدة أو أوروبا أو غيرها من التجمعات الدولية أو الدول منفردة، بشكل يتم إنفاق هذه الأموال والتي تسجل تحت بند دعم الشعب الفلسطيني في مجال البيئة، في الإطار الصحيح وللاستفادة القصوى، ولكي تصب في إطار الاحتياجات الحقيقية للبيئة الفلسطينية.
والمطلوب كذلك تطبيق حازم للقوانين الفلسطينية المتعلقة بحماية البيئة، سواء أكان قانون البيئة الفلسطيني لعام 1999، أو قانون الصحة المتعلق بالبيئة، أو قانون حماية المستهلك الفلسطيني، بشكل يعطي الغرض من إصداره.
ونحتاج إلى بناء ثقافة حماية البيئة وبشكل مستدام، وهذا يتطلب التركيز على تنمية الوعي البيئي، في المدارس والجامعات والمصانع وورش العمل والحقول الزراعية، ويتطلب الاستثمار وبشكل عملي في التعليم البيئي وخاصة في الجامعات، بشكل يلائم احتياجات البيئة الفلسطينية، والتعاون مع مراكز الأبحاث البيئية في جامعاتنا من أجل إيجاد حلول لمشاكل البيئة المحلية، وكذلك الاستخدام الأكثر للإعلام وبأشكاله في مجال البيئة، والأهم هو ترسيخ مفاهيم البيئة وأهمية حمايتها وفهمها كأولوية وطنية، ليس فقط تعتمد عليها أية خطة تنمية بشرية أو اقتصادية، ولكن لا يمكن العيش بحياة سليمة عادية في هذه البيئة إذا كانت ملوثة أو غير محمية من التلوث.
والأهم هو أننا نحتاج إلى خطة عمل بيئية وطنية، تعتمد على الحقائق لتحديد متطلبات التدخل، وهذا يعني إجراء الفحوص لعينات بيئية من خلال مختبرات مؤهلة، سواء أكانت تتبع جهات رسمية أو غير رسمية، ومن خلال دراسات تقييم علمي وموضوعي للأثر البيئي لمشاريع أو أعمال يمكن أن تؤثر على البيئة، ومن خلال تفعيل المراقبة والمتابعة لقضايا بيئية، ومن خلال تفعيل العلاقة والتواصل مع المواطن الفلسطيني الذي هو الأساس في العمل من أجل حماية البيئة التي يحيا فيها، وأن نأخذ بعين الاعتبار في خططنا الإستراتيجية المتعلقة بالتنمية، التغيرات البيئية والمناخية التي تحدث والتي يبدو أن أثرها سوف يزداد ويتعمق على الأقل في المدى القريب والمتوسط.