كيف أصبحت مناطق "أ" محطات عذاب للمسافرين، وتحترق فيها ملايين اللترات من الوقود يوميا والمركبات تقف مكانها ولا تتحرك !!
هل هو فشل كامل وانهيار تام في خطط وزارة المواصلات؟ ام انه انهيار للنظام والقانون بشكل شامل في ظل غياب القانون؟ ام ان المحاكم أصبحت بلا جدوى وصار التقاضي فانتازيا ومضيعة للوقت!! ام انه التعدي على الشوارع وزحف العشوائيات واستحواذها على الرصيف هو السبب؟ ام يا ترى ان الناس لمست ضعف السلطة وعجز القيادة فقامت بهجمة مرتدة باتجاه المال العام فصارت هي صاحبة القرار وليس منصب المحافظ الذي فرغ من مضمونه وتم حصر دوره في الجانب الأمني والإعلامي!! ام غياب دور البلديات وانتشار الفوضى!! ام هو كل ما ذكر.
والاهم من هذا ما يفعله الاحتلال بنا من حواجز ومصادرة أراضٍ ومحاصرة مناطق "أ" لصالح المستوطنات وإقامة طرقات وشوارع ابارتهايد شغلها الشاغل تسهيل حركة اليهود ومنع حركة العرب !!.
قبل نحو ثلاثين عاما كان مئات الاف الفلسطينيين يسافرون ليل نهار الى غزة واريحا لمشاهدة تجربة نظام الحكم الفلسطيني القادم مع أبو عمار، وسافروا مئات الكيلومترات مع أطفالهم لالتقاط الصور مع جندي او شرطي فلسطيني وهو يحمل الكلاشينكوف ويرتدي الزي العسكري الفلسطيني. عائلات وقرى بأكملها نزلت الى اريحا او سافرت الى غزة لتحظى بشرف اللقاء مع الفدائيين العائدين من الشتات والتماهي معهم في حالة انصهار ثوري لخّصت انتصار الانتفاضة الأولى. فما الذي جرى؟ وكيف انقلب الامر ليصبح هم المسافر الأول ان يخرج من مناطق "أ" ويسير في شوارع وطرقات يحكمها الاحتلال !!.
قال لي صديقي القديم انه حصل على مخالفة من شرطة الاحتلال بالقدس قيمتها 130 دولارا (450 شيكلا) لأنه ألقى عقب السيجارة في الشارع الاسفلتي قرب المسكوبية بالعاصمة المحتلة. واكمل قوله انه ذهب لدفع المخالفة في نفس اليوم. وحين سألته لماذا سارع في دفعها أجاب انه بسرعة الدفع يتجنب سحب التصريح ومضاعفة مبلغ المخالفة.
على الفور سألته عن شرطة بيت لحم ولماذا يقود السائق في شوارع المدينة بعكس السير! وماذا لو خالفه شرطي فلسطيني. أجاب بسرعة: لن ادفع المخالفة.
المسافر يمتنع عن رمي عقب سيجارة من نافذة السيارة في المناطق التي يحكمها الاحتلال، ويخبئ "طاسة الكولا" في جيبه او حقيبته خشية القائها في شوارع "إسرائيل". بينما هو نفسه يلقي بجثة كلب في منتصف شوارع المدن الفلسطينية ويخرج رأسه من النافذة ويلقي كل النفايات امام مكان سياحي وسيارته مسرعة دون ان يخشى اية محاسبة!! والسبب فشل الحكم وانهيار المنظومة القضائية والقانونية والإدارية والسياسية لدينا.
قبل ثلاثين عاما كان السفر من بيت لحم الى غزة يستغرق 20 دقيقة، ثم اقاموا حاجز بيت حانون الذي يطلقون عليه الان حاجز "ايريز" حتى بات من السهل الوصول الى روما ومن المستحيل الوصول الى غزة.
قبل ثلاثين عاما كان السفر من بيت لحم الى القدس يمر بحي تل بيوت وسكة الحديد وصولا الى جورة العناب فباب العامود ويستغرق الامر عشر دقائق، ثم ومع دخول السلطة صار يلتف عبر وادي النار ويستغرق 50 دقيقة للوصل الى حي الرام فقط، ثم اصبح يستغرق ساعة ونصف، وفي عصر المفاوضات السلمية صار يستغرق ساعتين. وهذه الأيام انت محظوظ اذا وصلت الى حي الطيرة برام الله في ثلاث ساعات. لان الوقت اللازم لقطع الطريق داخل مدينة رام الله الى حي الطيرة قد يستغرق أكثر من ساعة، وهذه شهادة عملية على غياب الهندسة بالمطلق عن هذه المدينة، رغم ان فلسطين تفتخر بأفضل المهندسين في العالم .
لا جسور ولا شق طرقات جديدة ولا أنفاق ولا وجود للرصيف ابدا في هذه المدن، ولا استراحات ولا مراحيض عامة ولا مواقف سيارات واسعة فيها مقاعد مريحة. انت تسافر من مكان الى مكان آخر وانت تعلم ان اليوم انتهى وان العودة الى المنزل بسلام يتطلب منك أحيانا نطق الشهادتين .
تعابير وجوه المسافرين تحمل كل القصة. والسفر عند المرضى والأطفال وكبار العمر مغامرة لا تحمد عقباها .
برأيي ان كل هذا مقصود ومخطط له. وان شمعون بيريس الذي قال (علينا العمل بقوة لمنع الفلسطينيين في الضفة الغربية من مقارنة انفسهم بسكان تل ابيب، وان نجبرهم على مقارنة أنفسهم بسكان الأردن وعمان).
وهذه يحدث الان. فإسرائيل تصرف مئات الملايين من الدولارات على شق الطرق وفتح الجبال في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر، ولا يتطلب من المسافر سوى 40 دقيقة ليصل من بيت لحم الى عكا. كما ان السفر الى عمان اسهل بكثير من السفر الى الخليل او نابلس او جنين.
الاحتلال خطّط ونفذ لتحويل مناطق "أ" وغزة الى مناطق فقر أو غياب قانون. والفلسطينيون لم يخططوا أصلا ولم يصرفوا سوى النزر اليسير لشق الطرقات وتحسين الهندسة، ولم يفعلوا شيئا لتغيير الحال. وها نحن وصلنا الى مرحلة فلتان الحكم ونسينا فيها امر غياب الرصيف، ونناقش اذا كان الشارع نفسه سوف يبقى او ان هناك من يخطط للبناء عليه.