رغم أن أغلبية الناخبين الأميركيين، وفق استطلاع حديث أجرته شبكة السي إن إن الإخبارية، ضد ترشيح كل من الرئيس الحالي الديمقراطي جو بايدن، والسابق الجمهوري دونالد ترامب، مجدداً لانتخابات الرئاسة التي ستُجرى في تشرين الثاني من العام القادم، إلا أن كلا الرجلين لا يعير استطلاع الرأي بالاً أو اهتماماً، وإذا كان الرئيس الأكبر سناً من بين كل الرؤساء السابقين قد أعلن رسمياً ترشحه للولاية الثانية، رغم أنه كان يقول إبان حملته الانتخابية السابقة، التي جرت في العام 2020، إنه لن يكون رئيساً لولاية ثانية، نظراً لتقدمه في العمر، فإن ترامب كان قد خرج من البيت الأبيض «بالقوة»، بعد محاولات يائسة أولاً للضغط على بعض حكام الولايات لتغير وجهتها الانتخابية، حيث فرض فعلاً إعادة الفرز في أكثر من ولاية، وثانياً عرقلة إجراءات نقل السلطة، بما في ذلك التحريض على منع الكونغرس من التصويت النهائي على فوز خصمه في المعركة الانتخابية، ذلك التحريض الذي دفع بأنصاره من الغوغاء لاقتحام الكابيتول، في سابقة لم تحدث من قبل، نقول أما ترامب هذا فما زال يعلن منذ ذلك الوقت، أنه سيعود للبيت الأبيض العام 2024. ثم إنه بدأ حملته الانتخابية رسمياً، خلال وبعد إجراء انتخابات الكونغرس النصفية التي جرت قبل ستة أشهر، في تشرين الثاني الماضي، والتي كان تدخل ترامب فيها بالذات سبباً لعدم تحقيق حزبه الجمهوري الفوز الذي كان متوقعاً على خصمه الديمقراطي، إن كان لجهة الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب في الكونغرس، أو في انتخابات حكام الولايات.
وحقيقة الأمر أن إعلان كل من بايدن وترامب ترشيح نفسيهما لانتخابات الرئاسة، لا يعني أن سيناريو العام 2020 سيعود «كلاكيت ثاني مرة»، ذلك أنهما بحاجة أولاً إلى فوز كل منهما بترشيح حزبه، وهو عادة ما يشهد منافسة بين عدد من المرشحين، وهنا كما جرت العادة، تبدو فرصة الرئيس بايدن قوية، ذلك أنه لم يخسر من بين الرؤساء الذين ترشحوا للظفر بترشيح أحزابهم للولاية الثانية، إلا جيمي كارتر، الرئيس الديمقراطي الذي خسر أمام الجمهوري رونالد ريغان، في معركة كارتر للفوز بولاية ثانية العام 1980، وترامب نفسه، الذي خسر في الانتخابات السابقة، أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن.
والأغلب أن بايدن سيفوز بترشيح حزبه، أما ترامب، فما زال هو المرشح الأقوى في الحزب الجمهوري، نظراً لثروته ولكونه رئيساً سابقاً، أحدث صخباً، ورغم أنه خرج من البيت الأبيض، إلا أنه لم يخرج من دائرة العمل والتأثير السياسي، ولكنه سيخوض معركته داخل الحزب الجمهوري من أجل الفوز بترشيحه لمنصب الرئيس، وذلك ما لم يصدر بحقه حكم قضائي، في واحدة من القضايا الجنائية العديدة المرفوعة ضده في المحاكم.
هناك احتمال إذاً بأن يتواجه الرجلان مجدداً، ليفرض أحدهما على الناخبين الذين تشير استطلاعات الرأي اليوم إلى أنهم لا يريدون كليهما، وإذا ما حصل ذلك، وبصرف النظر عن النتيجة النهائية، أي فوز بايدن أو ترامب، فإن ذلك قد ينظر له على أنه سيكون أمراً مخيباً لجمهور الناخبين من الحزبين، أي لغالبية الجمهور الأميركي، بما قد يدق الجرس لينذر بضرورة إحداث تغيير جوهري في نظام الحكم الفدرالي المعمول به منذ نحو مائتين وخمسين سنة في الولايات المتحدة الأميركية.
ونظام الحكم هو رئاسي دستوري، مع صلاحيات محددة للرئيس الذي هو في الوقت نفسه رئيس الحكومة، ويتركز نظام الحكم الديمقراطي على المؤسسات الرئيسة للدولة، وحيث إن لكل ولاية حاكماً وبرلماناً خاصاً بها، تحكم وفقه حكماً ذاتياً، لا يتعارض مع النظام الفدرالي، حيث يحكم الاتحاد رئيس منتخب لمدة أربعة أعوام، ولا ينتخب أي رئيس شخصياً لأكثر من ولايتين، وبرلمان اتحادي مكون من مندوبي الولايات الخمسين، بعدد من النواب في مجلسي الكونغرس، الشيوخ والنواب، يتناسب وعدد سكانها وأهميتها، طبعاً إضافة للمحاكم الفدرالية، والحكومة الفدرالية، بحيث تتركز رموز الدولة في كل من البيت الأبيض، مقر الرئيس، والكابيتول مقر الكونغرس.
لكن وخلال أكثر من مائتي سنة، من النظام الاتحادي الفدرالي، للوصول إلى مراكز التأثير، إن كان للبيت الأبيض، أو للكونغرس، كذلك لحكم الولايات ولعضوية برلماناتها، لا بد من الانتساب لأحد الحزبين الكبيرين: الديمقراطي، أو الجمهوري، وكأن الحزبين معاً، بمثابة حزب شمولي واحد كما كان يعمل به في الدول الشيوعية، نقصد الحزب الشيوعي، وانتقال السلطة إن كانت ممثلة بشخص الرئيس الأميركي، أو بأغلبية الكونغرس، وحكام الولايات، ما بين الحزبين الكبيرين الوحيدين، جعل من الديمقراطية الأميركية ومجمل نظام الحكم الأميركي - رغم أنه ديمقراطي، ومؤسساتي، ورغم أن الدولة دولة قانون - ديمقراطية النخبة من الأثرياء، كما أن النظام بات شائخاً، خاصة إذا ما ذهبت أميركا إلى السيناريو المحتمل كما أشرنا أعلاه، أي الاقتراع ما بين مرشحين لا يريدهما الناخبون الأميركيون، ولكن فرضهما النظام أو التقليد الانتخابي.
وأحد مظاهر الصورة التي ستظهر عليها أميركا في حال ترشح عن الحزبين ترامب وبايدن، مرتبطة بعمر كلا المرشحين، فبايدن سيكون بعمر 82 سنة، ولو فاز فإنه سيبقى في البيت الأبيض حتى عمر 86، أما ترامب، فليس أصغر منه كثيراً، فهو أصغر منه فقط بأربع سنوات، وهو حين ترشح العام 2016 كان بعمر 70 سنة، لكنه في العام 2024، سيكون بعمر 78، ولو فاز ودخل البيت الأبيض سيخرج منه بعمر 82 سنة، كل هذا دون أن نشير لا لفضائح ترامب، ولا لصحة بايدن، واستطلاع الرأي حولهما، لا يستند إلى التخمينات، ولا إلى الدعاية الانتخابية أو الشعارات، ولكن إلى كونهما معاً قد توليا مسؤولية الرئاسة من قبل، أي أنهما مجربان، ويعرفهما الجمهور جيداً، كما تعرفهما كل الدنيا.
مظهر آخر للصورة، ربما تراه عيون العالم خارج حدود الولايات المتحدة الأميركية، ورغم أن هذه العيون ستكون خارج صناديق الاقتراع، إلا أنها ستراقبه جيداً، فقد بدأ ترامب عهده مطلع العام 2017 بتهديد كوريا الشمالية، ومحاولة إخضاعها لتلقي أمامه سلاحها النووي، لكنه فشل، فحاول بعد ذلك التقرب من الزعيم الكوري الشمالي، لدرجة عقد صداقة شخصية معه، أما بايدن، فقد سارع على الفور بمحاولة العودة للعمل بالاتفاق النووي مع إيران، ليتفرغ أو ليحشد الدنيا ضد روسيا، لكنه فشل في تجديد الاتفاق مع إيران، لأن إسرائيل منعته من ذلك، وها هي سياسته تفشل في عزل روسيا، بل على العكس تسببت في خلق تحالف الشرق الذي يضم روسيا والصين وإيران وسورية، وإى حد كبير معهما الهند وتركيا، فيما بدأ العالم يعاد ترتيبه بما يذهب به لخارج النظام العالمي أحادي القطب الأميركي.
أي أن بايدن وترامب حاولا لملمة النظام العالمي حول محوره الأميركي، بعد أن انشغلت أميركا لثلاثة عقود بمحاربة الإسلام السياسي، تقدمت خلالها الصين اقتصادياً، وتعافت روسيا خلالها من تداعيات تفكيك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، باختصار فإن ولايتي بايدن وترامب ما هما إلا تعبير عن لحظة هبوط أميركا عن قمة العالم التي تربعت عليها منذ العام 1990، وفي الوقت الذي تبدو فيه العودة لتلك القمة أمراً مستحيلاً، فلم يبقَ لأميركا سوى محاولة الجلوس على قمة نصف العالم الغربي، أي تزعم تحالفها مع أوروبا وكندا واليابان!.