فلسطين أرضا وشعبا، لا زالت ضحية ثالوث ما يصطلح عليه بمصطلحات ثلاث، دخلت إلى قاموس اللغة العربية، وقاموس السياسة الفلسطينية والعربية والدولية والمتمثلة في (مصطلح النكبة، مصطلح النكسة، مصطلح الإنقسام)..!
خمسة وسبعون عاما تقريبا قد مرت على النكبة الفلسطينية في العام 1948 م وما نتج عنها من تشريد لثلثي أبناء الشعب الفلسطيني وتحويلهم إلى لاجئين داخل ما تبقى من فلسطين وخارجها في دول الجوار، واللاجئين الفلسطينيين لا زالوا إلى اليوم، يحتفظون بمفاتيح بيوتهم التي هجروا منها وقواشين ممتلكاتهم من أراض وعقارات قد اغتصبت وصودرت منهم عنوة بقوة السلاح، واقتلعوا منها بالحديد والنار وبالمجازر الهمجية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في المدن والقرى الفلسطينية، المدعومة من الإستعمار البريطاني خاصة والغرب العنصري الإستعماري بصفة عامة، رغم كل ذلك لا زال اللاجئين الفلسطينيون يتمسكون بحقهم في العودة إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها والى بيوتهم وأراضيهم التي خلفوها وراءهم سنة 1948م.
عندما غادروها كانوا يعتقدون أنها مجرد أيام معدودات ويعودون إليها، بعد أن رفضوا ومعهم اشقاءهم العرب ما عرف بقرار التقسيم رقم181 لعام 1947م الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/11/1947 م، في حين اعلنت العصابات الصهيونية قيام (دولة إسرائيل) (في الوقت الذي اعلنت فيه الدولة المنتدبة بريطانيا انهاء انتدابها واستعمارها على فلسطين في 15/5/1948 م)، بعدها انتظر الفلسطينيون دخول الجيوش العربية الشقيقة لمساعدتهم والتي اعلنت الحرب حينها من أجل تحرير فلسطين من العصابات الصهيونية ومنع قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وتمكينهم من العودة إلى ديارهم، وقد دخلت فعلا سبعة جيوش عربية بأسلحة متواضعة غير متوازنة عددا وعدة مع ما كانت تمتلكه وتتوفر عليه العصابات الصهيونية من أسلحة متطورة، فقد كان إجمالي عدد الجيوش العربية السبعة لا يتعدى أربعة وعشرين ألف عسكري وبدون قيادة موحدة حيث كان يقود الجيش العربي الأردني الضابط الإنجليزي جلوب باشا كما كان يسمى، ويساعده سته وأربعين ضابطا انجليزيا أيضا، في حين كان عدد المنخرطين من الصهاينة في العصابات العسكرية الإرهابية ما يزيد على مائة وعشرين ألف عسكري إرهابي ذا خبرة وتدريب عسكري عالي، ويتوفرون على تدريب وتسليح عسكري يتفوق على الجيوش العربية مجتمعة، من المؤكد في مثل هذه الظروف والأوضاع المأساوية للأسف أن تكون النتيجة هي الهزيمة النكراء وأن تحلَّ النكبة على الشعب الفلسطيني (أرضا وشعبا) ولم تتمكن اذا هذه الجيوش العربية السبعة من هزيمة العصابات الصهيونية، التي استطاعت أن تسيطر وتحتل ما يساوي أكثر من 78% من مساحة فلسطين الجغرافية متجاوزة بذلك حدود النسبة التي كان قد حددها وقررها لها قرار التقسيم رقم 181 المشار إليه أعلاه، وهي نسبة 54% من مساحة جغرافية فلسطين، وقد وُقعت على أثرها اتفاقات الهدنة العربية الإسرائيلية لترسيم حدود الكيان الصهيوني الوليد على اساسها فيما بعد.
رغم ذلك بقي الأمل عند الفلسطيني بالعودة قائما ويكبر يوما بعد يوم وفق القرار الأممي رقم 194 لسنة 1948م القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم التي اقتلعوا وشردوا منها، كما بقي الأمل لديه ينمو وقائما بإزالة الكيان الصهيوني يوما ما قادما لا محالة، وإقامة كيانه الفلسطيني المستقل على كامل التراب الوطني الفلسطيني.
لكن الواقع العربي كان يسير عكس هذه الآمال والأمنيات الفلسطينية والعربية، فوقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م بمشاركة بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني، والذي أدى إلى احتلال قطاع غزة وسيناء، وقد انتهى بعد ستةِ شهور بإنسحاب القوات الغازية من سيناء وقطاع غزة، ومع ذلك بقي الأمل الفلسطيني والعربي قائما حين تستعد الجيوش العربية من جديد لمعركة التحرير الفاصلة، لكن الطامة الكبرى والتي سميت بالنكسة حين وقعت حرب الخامس من حزيران للعام 1967م والتي انتهت بكارثة فلسطينية وعربية كبرى، نتج عنها إحتلال ما تبقى من أرض فلسطين (قطاع غزة والضفة الغربية والحمة) وشبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية، لتتضاعف مساحة الكيان الصهيوني خمسة مرات عما كانت عليه، وسميت هذه النتيجة نكسة عربية تمييزا لها عن نكبة عام 1948 م، عندها تصاعدت الثورة الفلسطينية التي كانت قد انطلقت في الاول من يناير عام 1965م على يد حركة فتح لتلتحق بها فصائل وطنية فلسطينية متعددة من مختلف ألوان الطيف السياسي، هكذا يمر اليوم على النكسة الحزيرانية تقريبا ستة وخمسون عاما، ليعلن العرب بعدها في قمة الخرطوم العربية لاآتهم الثلاث (لا صلح ولا. اعتراف، ولا مفاوضات) وقد تم رفع شعار مخادع (تحت مسمى إزالة آثار العدوان)، وما تبع النكسة من مقاومة شعبية ونضال وكفاح فلسطيني وعربي بأشكال وأساليب مختلفة، توجت بحرب اوكتوبر للعام 1973م ورغم ما أنجزته عسكريا .. ليبدأ بعد كل ذلك مسلسلا جديدا في إدارة الصراع يرتكز على اسلوب (المفاوضات الإنفرادية المباشرة) التي أدت إلى توقيع اتفاق كامب ديفيد مع مصر، ومن ثم اتفاق اوسلو مع م.ت.ف، واتفاق وادي عربة مع الأردن .. وفي الآونة الأخيرة بدأ مسلسل التطبيع العربي مع المستعمرة الإسرائيلية وقد شمل توقيع أربع دول عربية لإتفاقات تطبيعية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية لغاية الآن ... دون احقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني على الأقل وفق الشرعية الدولية وقراراتها أو وفق مبادرة السلام العربية، وبقي الفلسطيني رغم ذلك يحلم بالعودة إلى وطنه ويحلم بإقامة كيانه المستقل وعاصمته القدس ..
هذا المسلسل من النكبات والنكسات الفلسطينية والعربية، والتراجع في المواقف، وسوء الإدارة للصراع من الجانب العربي والفلسطيني، واكبه بإستمرار تفوق الكيان الصهيوني وداعميه وحلفاءه عسكريا وامنيا ...
ليأتي الإنقسام الفلسطيني الناتج عن انقلاب حركة حماس الحزيراني في15/6/2007م والذي يكون قد مرَّ عليه اليوم تقريبا ستة عشر عاما ليمثل الضربة القاسمة للمشروع الوطني الفلسطيني المرحلي .... أو في حده الأدنى، ويتوج ويتزاوج مع مسلسل النكبات والنكسات والتراجعات، ويمثل الركن الثالث في أركان ثالوث النكبات والنكسات الفلسطينية والعربية في مواجهة المستعمرة الإسرائيلية، التي جعلت من فلسطين أرضا وشعبا ضحيتها المستمرة ونكبتها ونكستها الكبرى، وتبعد أمل العودة والتحرير الملازمان للإنسان الفلسطيني عقيدة وممارسة لا يحيد عنهما، منذ بدايات القضية إلى اليوم والى سنوات وربما إلى عقود أخرى، هكذا تتشكل وتتحور النكبة والنكسة والقضية الفلسطينية ... بفعل القوى الصهيونية وحلفائها من القوى الإستعمارية الغربية من جهة وبفعل التراجع وسوء الإستعداد والإدارة للصراع من الجانب العربي والفلسطيني على السواء ...
فلا الحروب الكلاسيكية النظامية أو الحروب والانتفاضات الشعبية أدت إلى تحرير فلسطين ولا مكنت اللاجىء الفلسطيني لغاية الآن من حق العودة إلى دياره، ولا مسلسل المفاوضات المباشرة والغير مباشرة قد تمكنت من إنجاز ما اخفقت الحروب في تحقيقه...!
رغم كل هذه المحطات والنكبات والنكسات والتراجعات والنضالات والتضحيات وما حملته من مآسي واخفاقات وما حققته من انجازات قد تكون متواضعة، فإن الشعب الفلسطيني بقي ولازال حقيقة قائمة وماثلة يربوا على اربعة عشر مليونا من البشر، أكثر من نصفهم يعيش على أرض فلسطين، ليسوا فائضا بشريا على وطنهم ولا على العالم، حتى يستمر انكار حقوقهم الثابتة غير القابلة للتصرف من عدوهم وغيره، ولا يجوز أن يترك فريسة لسياسات الكيان الصهيوني وداعميه من قوى الإستعمار الغربي ليواصل مسيرة قضمه لهذه الحقوق قطعة قطعة ومرحلة تلو مرحلة ...
على طريق الغائها وقبول الكيان الصهيوني من ثم عربيا وعالميا على صيغته التوسعية والعنصرية الإحلالية ... المرفوضة فلسطينيا وعربيا ودوليا، ويتم كل ذلك للأسف بدعم وغطاء من إدارة الولايات المتحدة الأمريكية منفردة والتي توفر له الدعم المطلق عسكريا وسياسيا وتوفر له الحماية الدولية ...
الفلسطينيون اليوم مطالبون بقراءة هذا الواقع السياسي والعسكري الإقليمي والدولي المعقد قراءة فاحصة، على ضوءها يجب أن يتم استخلاص وبناء واعتماد استراتيجية نضالية كفاحية جديدة توائم هذا التعقيد، أول عناصرها يتمثل في انهاء ما يسمى بالإنقسام ... الذي تكرسه وترعاه المستعمرة الإسرائيلية وأطراف عربية واقليمية ودولية، وانجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية ميدانيا ومؤسساتيا في اطار م.ت.ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ببرنامج سياسي ونضالي متفق عليه وبصيغة تكفل ضم واحتواء جميع القوى والتيارات الوطنية الفلسطينية، في اطار جبهوي ناظم وموحد للفعل الوطني في مواجهة المشروع الصهيوني على كل المستويات محليا وعربيا ودوليا، ومقاومة هذا المشروع الصهيوني بكل الوسائل الممكنة والمتاحة.
عربيا لابد من مراجعة المواقف العربية لجميع الدول ووقف مسلسل التراجع والتراخي في التعامل مع الكيان الصهيوني ووقف كل محاولات واتفاقات ومقدمات التطبيع معه والالتزام بمبادرة السلام العربية وعدم تجاوزها تحت أي مبررات واهية، وبناء المواقف العربية الدولية الواضحة على اسس مصلحية مع مختلف الدول والقوى على اساس مواقفها من هذا الصراع المزمن ومن النكبة والقضية الفلسطينية، والعمل على ايجاد آلية فعالة لتنفيذ القرارات العربية وقرارات الشرعية الدولية المختلفة بهذا الشأن الذي يقضي على آثار النكبة الفلسطينية بالعودة وتقرير المصير ..
حتى يدرك الكيان الصهيوني وحلفائه مدى جدية الموقف العربي والدولي من سياساته العدوانية، وتأكيد الإلتزام بقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية كحد أدنى للموقف العربي والدولي لإنهاء الصراع ..
على الديبلوماسية العربية والفلسطينية ان تنشط وتسعي لخلق جبهة دولية شعبية ورسمية عالمية داعمة للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني ومعارضة لإستمرار الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وسياساته التوسعية والإستيطانية والعنصرية الإحلالية .... المجافية للشرعية الدولية ولأبسط قواعد القانون الدولي ..
نخلص إلى أن النضال الفلسطيني يجب أن يرتكز ويهدف إلى تحقيق الغايات والأهداف الإستراتيجية التالية لإعادة الإعتبار لقضيته ..
اولا: إنهاء الإنقسام فورا وتحقيق الوحدة الوطنية في اطار م.ت.ف كجبهة وطنية عريضة تضم كافة القوى الفلسطينية.
ثانيا: النضال من أجل اسقاط قانون قومية الدولة (يهودية الدولة) في الكيان الصهيوني وتحقيق المساواة لشعبنا في منطقة الإحتلال للعام ثمانية واربعين، والعمل على تحقيق هدف العودة للاجئين الفلسطينيين، كحق أصيل وثابت فردي وجماعي غير قابل للسقوط أو التقادم أو التنازل عنه وفق ما فصله وأقره القرار 194 لسنة 1948 م.
ثالثا: النضال من أجل ممارسة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وفق القرار 181 لسنة 1947م وإقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس.
هذا هو الرد لمحو آثار ثالوث مصطلحات (النكبة والنكسة والإنقسام) الذي جعل من فلسطين وشعبها ضحية مستمرة وماثلة للعيان لمدة خمسة وسبعون عاما دون ظهور أية بوادر لإنهاء معاناتها وآثارها المدمرة ..