تحلّ الذكرى الخامسة والسبعون لإقامة دولة إسرائيل، بينما الدولة غير الطبيعية لا تستطيع الاحتفال بما يليق بمناسبة يعتبرها الإسرائيليون ومناصروهم في العالم، «يوم الاستقلال».
الدولة المصنّعة لا تجيب بإقناع كيف استقلّت وعن ماذا، الروايات الإسرائيلية التي تزيّف التاريخ استحالت إلى كابوسٍ يسيطر على العامّة والخاصّة، بشأن قدرتها على المواصلة، والخوف المتزايد على الوجود.
بعد خمسة وسبعين عاماً من إقامتها، تُواجه إسرائيل أزمة وجودية لم تشهد مثيلاً لها منذ قيامها، تزداد خطورتها كلّما اعتقد القائمون عليها، أنها تحقق المزيد من العلوّ، وتستحوذ على المزيد من أدوات القوّة، حتى في أصعب الظروف التي واجهتها إسرائيل إبّان «حرب الاستنزاف» المصرية التي تلتها «حرب أكتوبر ـــ تشرين» العام 1973، والتي أحدثت هلعاً وخوفاً شديدين لدى القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، بسبب الانتصار الذي حقّقه الجيش المصري، الذي توقّف عن مواصلة الحرب نحو التحرير بسبب حسابات سياسية، ولكن، أيضاً، بسبب تدخُّل الولايات المتحدة الأميركية لصالح إسرائيل.
خلال الحروب السابقة، منذ العام 1948، حتى «حرب تموز» مع لبنان العام 2006، خاضت إسرائيل حروبها، بعيداً عن أيّ تهديد حقيقي لـ «الجبهة الداخلية».
المعادلة تغيّرت، وتغيّرت بالضرورة إستراتيجيات الجيش الإسرائيلي بعد النشاط المكثّف للمقاومة الفلسطينية التي استهدفت الوجود الإسرائيلي بما في ذلك «الجبهة الداخلية».
ومع تزايد قدرات المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، والشعبية في المحيط، أصبحت «الجبهة الداخلية» مُعرّضة لاختلالات واضحة وأكيدة، لا تنجح السياسات الرسمية الإسرائيلية في تحييدها، رغم تطوُّر قدرات الجيش الدفاعية.
لم تعد إسرائيل تتبجّح بأنها تملك جيشاً لا يُقهر، أو بأنّها تمتلك قوّة ردع حاسمة، فلقد اختلّت هذه المعادلة، وتحوّل الخطاب المتبجّح إلى خطابٍ يتحدث عن استعادة القدرة على الردع، ما يعني اعترافاً بأنّ الجيش قد فقد القدرة على الردع.
لم يثنِ هذا التحوّل، الطبقة السياسية والعسكرية في إسرائيل، عن مواصلة الوهم، بأنّ في وُسعها (إسرائيل) الدولة العنصرية الفاشية، تحقيق أهداف الحركة الصهيونية نحو السيطرة على كلّ أرض فلسطين التاريخية، والتمدُّد في اتجاه المنطقة من نهري «الفرات» إلى «النيل» كخطوةٍ أولى نحو السيطرة على الأمّة العربيّة.
وبالرغم من «اتفاقيات السلام» مع مصر، والأردن، و»اتفاقيات سلام أبراهام» إلّا أن إسرائيل، تواصل حروباً من نوعٍ آخر خطير ضد من أبرمت معهم «السلام».
ولعلّ ما يجري في السودان وجنوبه، وما يجري في أثيوبيا منذ بعض الوقت من حروبٍ على المياه، والثروات، يبيّن إلى أيّ مدى تذهب إسرائيل في تطلُّعاتها تجاه من أبرمت معهم «السلام».
مع كلّ هؤلاء انتهت الحروب العسكرية التقليدية لتبدأ إسرائيل حروباً من أنواع وأشكال أخرى تنطوي على مخاطر وجودية استراتيجية، خصوصاً على ضفاف «النيل».
ما تفوّه به الوزير بتسلئيل سموتريتش بشأن عدم وجود شعب فلسطيني ليس موقفاً شخصياً، وإنّما يعبّر عن سياسة عامّة، حتى لو امتنع مسؤولون آخرون عن التصريح بذلك، فالسياسات المتّبعة وإنكار حقوق الشعب الفلسطيني والحرب الدائرة ضد الوجود الفلسطيني، تؤكد ذلك.
الحرب ضد الفلسطينيين المتواجدين على أرضهم، لا تقتصر على الأراضي المحتلة العام 1967، وإنّما هي قد بدأت منذ زمنٍ طويل، لاستهداف الفلسطينيين في أراضي 1948.
في الحرب على الفلسطينيين في أراضي 1948، لم تعد تنفع كلّ سياسات المهادنة، للتقليل من خطورتها.. لا شعارات المساواة، ومنع الأسرلة، ولا تُرّهات منصور عباس وجماعته يمكن أن توقف هذه الحرب.
لقد ذهب منصور إلى حدود تجاوز فيها أبسط الالتزامات الوطنية حين أدان ما يسمّيه «الإرهاب الفلسطيني»، وحين طالب الفصائل الفلسطينية بالتوقّف عن التدخُّل في الشؤون الداخلية الإسرائيلية، وذهب إلى تقديم أسوأ فروض الطاعة للتحالف الحاكم.
استحقّ منصور الثناء من قبل قادة «الليكود»، الذين أشادوا بتصريحاته واعتبروها بطاقةً بيضاء تؤهّله وجماعته للدخول في أيّ ائتلافٍ بما في ذلك القائم في إسرائيل الآن.
لا يستطيع أحدٌ تبرير ما ذهب إليه منصور حتى الآن رغم أنه أحنى رقبته للسابقين والحاليّين من الائتلافات الحكومية، ذلك أنه إن كان يسعى للحصول على ميزانيات لحماية وتطوير المدن والقرى العربية فإنّ الأرقام تنسف تُرّهاته.
بعد أربعة أشهرٍ على تولّي الائتلاف العنصري الفاشي، وفي فترة ولاية إيتمار بن غفير وزارة الداخلية (الأمن القومي) بلغ عدد قتلى الجرائم (78)، أي أكثر من ضعف القتلى مقارنة بالفترة المماثلة من العام المنصرم.
يعترف ضابط شرطة إسرائيلي بأن قضية الجريمة في الوسط العربي، ليست من أولويات بن غفير، وأنه لا يهتمّ كثيراً بهذه القضية.
أمر الجريمة في «الوسط العربي»، ليس بعيداً عن سياسات الدولة، والأرجح أن تتفاقم هذه القضية، بعد تشكيل «الحرس القومي»، وهو الميليشيا التي سيُنشئها بن غفير بموافقة الحكومة، وتتركّز مهمّتها في قمع فلسطينيي «الداخل».
وبرأينا فإنه كلّما تعمّقت الأزمة الداخلية في إسرائيل فإن المخطّطات ضد الفلسطينيين ستزداد خطورة، ولكنها لا يمكن أن تبلغ أهدافها بسبب تزايد التهديدات الوجودية على إسرائيل برُمّتها، وصمود الشعب الفلسطيني.
إذ يعود الكنيست للعمل، فإن ساعة الانفجار الكبير توشك على الاقتراب من دون القدرة على إعادتها إلى الخلف.
المفاوضات بشأن التعديلات القضائية تفشل حتى الآن في التوصّل إلى اتفاق، ذلك أن تصريحات قيادات «ليكودية» تشير إلى أن فشل المفاوضات، سيؤدّي إلى تمرير «قانون الإصلاح القضائي» من جانبٍ واحد.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ ثمّة نوايا لتمرير قانون يستهدف إعفاء طلّاب المدارس الدينية من «الحريديم»، من الخدمة الإلزامية، باعتبار ذلك أحد التزامات الائتلاف الحكومي.
في أوّل مُؤشّرات ردود الأفعال المرتقبة، يحذّر سبعمائة من جنود الاحتياط من تشكيل «العمليات الخاصة»، في عريضة لنتنياهو، من أن تمرير التعديلات القضائية بصورةٍ أُحادية سيؤدّي إلى انهيار تشكيل الاحتياط.
من الواضح أنّ تمرير التعديلات القضائية، وقانون إعفاء «المتدينين» من الخدمة العسكرية الإلزامية، سيؤدّي إلى تأجيج الصراع، وخُروجه من دائرة الاحتجاجات الواسعة التي اعتمدتها «المعارضة»، من دون توقُّف منذ أشهر.
تمرير هذه «التعديلات» سيمسّ بالبنية العسكرية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية على نحوٍ يهدّد كيان الدولة، و»مؤسّساتها العميقة»، ويضاعف مخاوفها من فقد القدرة على الردع، خصوصاً وأنّ المحيط يغلي بـ «روح المقاومة»، وربما يطيح بقدرة حلفاء إسرائيل على حمايتها.