في عامها الـ75، تعيش دولة إسرائيل أزمة داخلية تهدد حصانتها وقوّتها وإنجازاتها. من هنا، إلى أين تتجه دولة إسرائيل؟ تتعلق الإجابة بالصورة التي سنخرج فيها من الأزمة الحالية، لكنها غير محصورة بها. لذلك، ففي ذكرى إقامة دولة إسرائيل، سنوجه أنظارنا إلى الأفق، ونُحاول أن نرى ما بعد 25 عاماً: كيف ستكون إسرائيل في عيد ميلادها المئة؟
من الواضح أنه سيكون من الصعب توقّع ما سيحدث بعد عشرات الأعوام في مجال التغييرات الدولية والإقليمية والداخلية. ولذلك، سنقوم بالأمر استناداً إلى «تخطيط يستند إلى سيناريوهات»، كما هو الأمر في عالم التخطيط الاستراتيجي، فَلِتَخَيُّلِ مسارات بعيدة المدى، يجب صوغ سيناريوهات في مجالات متعددة؛ سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وتكنولوجية، وغيرها، وفي كُلّ مجال سيكون هُناك سيناريو إيجابي وآخر سلبي. هذه السيناريوهات لا تتوقع المستقبل، إنما تُساعد في التفكير فيه، ومعرفة التهديدات والفُرص، وصوغ استراتيجيات تتعامل مع التهديدات وتساعد في تحقيق السيناريوهات الإيجابية.
لذلك، هذه سيناريوهات ممكنة في 9 مجالات؛ انطلاقاً من المستوى الدولي، مروراً بالإقليمي، وصولاً إلى الداخلي، وستؤثّر في إسرائيل خلال الأعوام الـ25 المُقبلة:
الهندسة الدولية
السيناريو (أ): أن تتخطى الصين الولايات المتحدة وتتحول إلى القوة العظمى الكبرى. هنا يظهر توازن مرعب من التدمير المتبادل يمنع حرباً عالمية، إلاّ إن الولايات المتحدة ستكون قد ضعفت، وانطوت على ذاتها، يرافق ذلك ضعف تأثيرها الدولي وتراجعه، وضمنه التأثير في الشرق الأوسط. حينئذ، تفقد إسرائيل الدعم الضروري من طرف قوة عظمى، والصين ليست بديلاً ممكناً.
السيناريو (ب): أن تتعامل الولايات المتحدة مع التحدي الصيني، وتعيش الصين تحديات داخلية، وتحافظ الولايات المتحدة على تفوّقها العسكري والتكنولوجي، ومكانتها الدولية، وتمنع الصينَ من الوصول إلى تكنولوجيا حديثة (لا تستطيع الصين تصنيعها بذاتها)، وأيضاً تمنعها من التحالف مع الهند واليابان وأستراليا. وبذلك تكون الولايات المتحدة قد منعتها من التحوّل إلى قوة مهيمنة. حينئذ، تستغل إسرائيل الفرصة لتتحوّل إلى شريكة استراتيجية وتكنولوجية للولايات المتحدة، وتعزز من علاقاتها مع معسكر الغرب وآسيا.
المكانة السياسية
السيناريو (أ): أن تتفكّك العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل بسبب زعزعة القيم المشتركة للدولتين وتعارض المصالح في قضايا استراتيجية، وهو ما سيحوّل إسرائيل من قيمة مضافة إلى عبء بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وحين لا يعود «الفيتو» الأميركي مفهوماً ضمناً، ستدخل إسرائيل عزلة سياسية، وتتلقى ضربات صعبة في المحافل الدولية على نمط مئات القرارات التي يقال عنها عادة إنها «من دون أسنان»، وتمر منذ سنوات في الجمعية العامة للأمم المتحدة. بعد ذلك، سيتم فرض عقوبات على إسرائيل، ضِمنها عقوبات من طرف مؤسسات وشركات دولية، وذلك بسبب معارك عسكرية تُتهم خلالها باستهداف المدنيين، وتعرّض المسؤولين فيها والمُقاتلين للاعتقال في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي. بالإضافة إلى ذلك، نذكر عدم تتجدد المساعدات الأميركية بعد سنة 2028، وإلحاق الضرر بالتعاون الأمني وبيع السلاح المتطور، وارتفاع تهديد فرض منع بيع أو شراء سلاح.
السيناريو (ب): أن تقف إسرائيل بوضوح مع المعسكر الديمقراطي الذي تقوده الولايات المتحدة، وتُموضع ذاتها كالشريك الأهم لواشنطن في الشرق الأوسط وأبعد منه. أضف إلى ذلك أن يتعزز كلّ من التحالف بين إسرائيل والولايات المتحدة والتنسيق الأمني - السياسي بينهما في القضايا الاستراتيجية، وتتعمق عمليات التطوير المشتركة للقدرات العسكرية المستقبلية وتتوسع. يرافق ذلك استمرار الإدارة الأميركية في إحباط القرارات ضد إسرائيل في المحافل الدولية، فيتم حفظ حرّية الحركة السياسية والعسكرية الخاصة بإسرائيل. ويبقى الدعم الأميركي والنظام القضائي الإسرائيلي القبّة الحديدية القضائية لجنود الجيش في العالم.
يهود العالم وإسرائيل
سيناريو (أ): أن تبقى إسرائيل المركز الأكبر لليهود في العالم، لكنها تتوقف عن كونها الدولة القومية للشعب اليهودي برمّته، وذلك بسبب الفجوات الآخذة في التوسع بين قِيَمِهَا الداخلية وقِيَمِ أغلبية يهود أميركا الليبراليين – الديمقراطيين، بالإضافة إلى تنكّرها للاتجاهات اليهودية غير الأرثوذكسية، ولمسارات الاختلاط وتبدّل الأجيال. وكذلك تتراجع ذكرى المحرقة وصورة إسرائيل كدولة صغيرة تقاتل على وجودها. ولن تعود بعد ذلك لتشكّل دافعاً للتضامن معها، فيتراجع دعم إسرائيل من جانب اليهود في العالم اقتصادياً وثقافياً.
سيناريو (ب): أن تعترف إسرائيل بأهمية يهود الولايات المتحدة وتدير معهم حواراً مفتوحاً بهدف تقوية العلاقة بين التجمّعين الأكبرين لليهود في العالم، وصوغ مستقبل مشترك لكلَيْهما. زد على ذلك أن تتقبل إسرائيل برحابة التيارات اليهودية كافة، وتحافظ على طابعها الديمقراطي وتستمر في كونها مركز استقطاب ليهود العالم، الذين يزيدون من تدخّلهم في إسرائيل وحجم دعمهم إياها لبناء قوّتها.
التكنولوجيا
السيناريو (أ): أن تفقد إسرائيل تفوّقها التكنولوجي والعسكري الذي ميّزها خلال الـ50 عاماً الماضية بفضل التطوير المحلي والتكنولوجيا الأميركية والقدرة على ملاءمتها الحاجات العملياتية الخاصة بها. كذلك، أن تحدّ الولايات المتحدة من قدرة إسرائيل على الوصول إلى تكنولوجيا حساسة، بصورة تمنعها فيها من ترجمة الابتكارات التكنولوجية في مجال المنظومات العسكرية إلى أرباح واستثمارات. ويكون هذا في الوقت الذي يتراجع فيه قطاع التكنولوجيا العالية الدقة في إسرائيل. وفي مقابل ذلك، يتزوّد أعداء إسرائيل بقدرات متطورة أكثر في مجال الصواريخ، والطائرات المسيّرة، والاستخبارات، والذكاء الاصطناعي والسيبراني، وذلك بمساعدة من الصين وروسيا، اللتين تستغلان جيداً نقطة ضعف إسرائيل.
السيناريو (ب): أن تضم الولايات المتحدة إسرائيل إلى بنيتها الصناعية – التكنولوجية، وتقوم بترقيتها إلى مكانة الدول في الـ(Five Eyes)، وتحصل إسرائيل على القدرة على الوصول إلى تكنولوجيا وميزانيات تطوير تسمح لها باستثمار قدراتها في مجال الابتكارات. حينئذ، تتحوّل إسرائيل، بمساعدة الولايات المتحدة، إلى الدولة الأكثر تطوراً في مجال الدفاع من الصواريخ والمسيّرات عبر تقنية «الليزر»، كما يتواصل حصولها على أسلحة هجومية، تُعَد من الأسلحة الأكثر تطوراً في العالم، مع التشديد على منظومات التسيير عن بُعد والفضاء. في النتيجة، يُحفظ التفوق العسكري في مقابل الأعداء ويتوسع إلى مجالات استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل، وذلك من خلال دمج القدرات المتطورة والروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة، وتكنولوجيا الفضاء.
الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي
السيناريو (أ): ألاّ ينجح الفلسطينيون والإسرائيليون في الوصول إلى اتفاق سياسي، وتسرع إسرائيل في مسار الضم الفعلي. إلى جانب ذلك، تتوسع المستوطنات بصورة كبيرة جداً، وهو ما يمنع كلياً إمكان قيام دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً، ويموت إمكان كينونة واقع دولتين، ويختلط المجتمعان بصورة تمنع الانفصال. كما تقوم الأغلبية العظمى من الفلسطينيين بدعم دولة واحدة، ويطالبون، في ظل دعم دولي، بالمساواة في الحقوق السياسية في إطارها.
ومن الناحية الميدانية، لا تعود السلطة الفلسطينية قادرة على الحُكم، فتتحوّل المسؤولية عن ملايين الفلسطينيين إلى إسرائيل وتُثقِل كاهلها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. أمّا في غزة، فلا تعود المنطقة الجغرافية تتسع لأعداد السكان التي ترتفع، ولا تعود البنى التحتية قادرة على خدمتهم، وتزداد الهجمات الصاروخية والقذائف والمسيّرات، وهو ما يدفع الجيش إلى الدخول من جديد إلى قطاع غزّة.
السيناريو (ب): أنه بعد أبو مازن ينجح ائتلاف مشكّل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية كما دول المنطقة المعتدلة في تشجيع قيادة فلسطينية جديدة على العمل على تقوية منظومات الحكم وتحسين الحوكمة والاقتصاد الفلسطينيَيْن، وعلى أن يتنكّروا لـ»الإرهاب»، بالكلام والأفعال. وتدفع إسرائيل باتجاه اتفاق سياسي يحفظ أمنها، ويحفظ غور الأردن والكُتل الاستيطانية في يدها. وإن لم ينجح ذلك، تدفع إسرائيل بالمبادرة إلى خطوة أحادية الجانب، بدعم المجتمع الدولي والدول العربية المعتدلة لصوغ حدودها وتقليص سيطرتها المباشرة على الفلسطينيين، بهدف حفظ صورتها كدولة «يهودية وديمقراطية».
عن موقع «N12»
ــــــــــــــــــــــ
*عاموس يادلين رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية سابقاً وباحث، وأودي أفنطال عسكري وباحث مختص في قضايا السياسة والاستراتيجيا.