بعد أن وجّه يائير نتنياهو، نجل رئيس الوزراء اليميني الإسرائيلي الاتهام بشكل صريح لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، قبل وقت، مدعياً بأنها تدعم التظاهرات الإسرائيلية المعارضة للحكومة، والمتواصلة منذ تشكيلها، والتي تصر على إسقاط مشروع القرار الحكومي الخاص بالقضاء، أعلن رئيس وزراء إسبانيا، وإن كان في مؤتمر الاشتراكية الدولية، أي ليس بصفته الرسمية كرئيس للحكومة، بأنه ضد خطة الحكومة الإسرائيلية تلك، أما واشنطن نفسها، فقد سبق لها أكثر من مرة أن أشارت إلى خطورة ما يحدث داخل إسرائيل من شقاق حول تلك الخطة، معتبرة بأن الخطة تذهب بدولة إسرائيل إلى الدكتاتورية، فيما حذر أكثر من خبير بشأن العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، من أن تقويض «الديمقراطية» الإسرائيلية من شأنه أن يؤثر سلباً على تلك العلاقات التي بنيت بشكل استراتيجي على أساس ما يجمع البلدين من نظام ديمقراطي.
والحقيقة أن ما يحدث داخل إسرائيل من شقاق أو خلاف يصفونه هم وليس أحد آخر، بأنه أخطر خلاف تمر به «الدولة» منذ تأسيسها، ما هو إلا ترجمة لما وصلت إليه إسرائيل من تطرف سياسي واجتماعي داخلي، ناجم عن توغل اليمين خلال العقود الماضية، خاصة منذ انتهاء الحرب الباردة، وسيطرة أميركا منفردة على العالم، في ظل نظام عالمي أحادي القطب، وخطة الحكومة الحالية الخاصة بتقويض القضاء، هي واحدة من خطط عديدة، في جعبة هذه الحكومة اليمينية المتطرفة، التي من الطبيعي أن تفكر بشكل مستبد، وأن تسعى إلى إقامة نظام استبدادي عنصري تتوافق طبيعته الداخلية مع سياساته الخارجية، وحكومة كهذه لا تكتفي بالسيطرة على القضاء، بل لا بد لها أن تحدث انقلاباً كاملاً على مجمل نظام الدولة التي أنشئت في ظل الهيمنة الاستعمارية كواحدة من ركائزها في المنطقة، ثم عاشت عمرها كله في ظل الحرب الباردة، باعتبارها بيدقاً متقدماً للغرب الإمبريالي، مهمته أن يحارب حركة التحرر في المنطقة.
أي أن ظروف نشأة إسرائيل، طبعتها على شاكلة النظام العالمي، الذي أنشئت في ظله ومن أجل مصالحه الاستعمارية، وإسرائيل منذ نشأتها تأثرت بهذه الدرجة أو تلك بطبيعة النظام العالمي، حتى أن الاتحاد السوفياتي الذي كان القطب العالمي الثاني، سارع إلى الاعتراف بها بعد الولايات المتحدة مباشرة، وظل يقف ضد احتلالها لأراضي الدول العربية فقط، ويرفض أي محاولة لتدميرها، المهم أن إسرائيل نفسها، جربت في ظل حزب العمل، أول نشأتها نظاما اشتراكياً عبر إقامة الكيبتوسات الزراعية والتعاونيات المختلفة، وكان وما زال حزب العمل عضواً في الاشتراكية الدولية، وطبعاً هذه اشتراكية الغرب، ولم تكن لها علاقة بالسوفييت ولا بالمنظومة الاشتراكية الدولية، لكننا نستذكر ذلك في ظل احتفال إسرائيل بما يسمى عيد «استقلالها» الذي هو في الحقيقة يوم إعلانها على حساب الشعب الفلسطيني، وقد جاء ذلك بعد «النكبة» التي حلت بفلسطين، ومضمونها تدمير نحو 500 قرية، وعقد المجازر الجماعية، وتهجير معظم الشعب الفلسطيني من قراه ومنازله.
وأكذوبة «استقلال إسرائيل» لا يصدقها الكثيرون، فهي «الدولة» الوحيدة، التي ساعد على قيامها «المستعمر نفسه» وكان الانتداب البريطاني، ولم يكن «شعبها» موجوداً قبل الانتداب، وقد فتح الانتداب البريطاني نفسه، بوعد بلفور أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وما زالت الهجرة اليهودية تتدفق حتى اليوم، أي أن الشعب الإسرائيلي الحالي لم يكن في فلسطين حين احتلتها بريطانيا وفق سايكس_ بيكو بعد احتلال الحلفاء لها من الدولة العثمانية، لذا لا يمكن القول بأن «الشعب الإسرائيلي» كان محتلا، وأنه قاوم الاستعمار البريطاني، بل هو قاتل الفلسطينيين، ولم يطرد البريطانيون من فلسطين، بل طرد الأهالي الفلسطينيين من قراهم.
نشأة إسرائيل ملتبسة بكل معنى الكلمة، لذا من الطبيعي أن يجيء اليوم الذي تدفع فيه ثمن تلك النشأة الملتبسة، ويبدو أن هذا اليوم يقترب كثيرا، وهذا يفسر ما يحدث داخلها هذه الأيام، كذلك لا يمكن لنا أن نغفل ما يحدث حولها وخارجها، فإسرائيل، بدأت من أجل الحصول على دعم الغرب، بالابتعاد عن الشرق الشيوعي، والظهور بمظهر الدولة الديمقراطية الغربية، وحيث أن دول الغرب، خاصة الأساسية منها: أميركا، بريطانيا، وفرنسا، كانت دول استعمارية تحتل دول وأرض الغير وتنهب ثرواتهم الطبيعية، فقد ظهرت إسرائيل بهذا المظهر، ولم يحتج حلفاؤها حين أعلن قيامها ديفيد بن غوريون، على ثلاثة أرباع فلسطين الانتدابية، متجاوزا بذلك قرار التقسيم نفسه، الذي منح نصف أرض فلسطين للدولة اليهودية، مقابل النصف الآخر للدولة العربية.
لكن العالم تغير، والغرب الذي كان «موحدا» ضد القطب العالمي الآخر، والذي كان يرى فيها «فرقته الاستعمارية المتقدمة»، لفظ أثواب الاستعمار اليوم، لكن إسرائيل لم تتغير، لذا لم تقم حتى اليوم بتحديد حدودها الخارجية، كما هو حال كل دول العالم، كما أنه لا يمكن القول بأنها دولة دستورية، فهي تعتمد بشكل أساسي على السلطة التشريعية، التي هي أكثر استجابة من الدساتير للمستجدات، وخير دليل على ذلك قانون الهوية العنصرية، وكثير من القرارات التي يتخذها الكنيست ولها طبيعة دستورية.
وكان عبثا بالطبع أن تطالب إسرائيل غيرها، وبالتحديد الجانب الفلسطيني، الاعتراف بها كدولة يهودية، ذلك أن الطبيعة الطائفية لأية دولة تتناقض تماما مع كونها دولة ديمقراطية، أي أن إسرائيل ما زالت تبحث عن هويتها غير الواضحة، لاضطراب طبيعتها، فلا هي دولة ديمقراطية، ولا هي دولة مدنية، وهي حائرة، خاصة كلما تقدم الوقت، وصارت الحروب العالمية، وأهمها الحرب الباردة بعيدة تماما عن ظهور البشر، وخرجت كل ثقافتها من الذاكرة، أي أن إسرائيل كدولة متشددة اجتماعيا، ذاهبة لتكون دولة يمينية_دينية، لن يكون بمقدورها أن تكون ملاذا لمواطنيها، من غير اليهود أولاً، ثم من اليهود العلمانيين أو المدنيين ثانياً.
أما خارجياً، فإن طبيعة إسرائيل الاستعمارية، كذلك كونها مسكونة بالقلق، تتوجس بالآخرين ريبة دائماً، وهي لا تثق ولا حتى بالولايات المتحدة، وهي مسكونة بالخوف والقلق الوجودي والمصيري، لذا تصر على الاحتماء وراء الدرع الحديدي، بالتفوق العسكري على كل المحيط، وبعد عقود تلت قيامها، حاربت دول الجوار العربي: مصر، سورية، الأردن ولبنان، وبعد أن انفتح الجدار العربي أمامها، باتت تناصب إيران العداء، ويقيناً بأنها لو تجاوزت الحاجز الإيراني، فإنها قد تثير المخاوف من باكستان أو حتى اندونيسيا!
اغلب الظن بأن إسرائيل بحكومتها الحالية التي اعتبروها هم بأنها الأكثر يمينية في تاريخها، قد وصلت إلى خط النهاية، وهي باتت أمام مفترق طرق حاسم، لا بد أن يحدد طبيعتها الداخلية، وصورتها الخارجية، وحيث أن العراك السياسي انتقل للشارع، عبر التظاهرات والتظاهرات المضادة، ومع عدم وجود احتمال حقيقي باندلاع حرب أهلية داخلية، فإن نتيجة ذلك ستنعكس على الخريطة الحزبية، واستطلاعات الرأي بدأت تلاحظ انكماش تحالف اليمين مع الحريديم واليمين المتطرف الحاكم حاليا، ورغم أن انتقال الأغلبية البرلمانية يذهب لصالح الائتلاف السابق، إلا أنه يمكن أن يظهر يسار اجتماعي من خلال تظاهرات المعارضة، أما خارجياً فيمكن أن لا تقتصر المقاومة على الشعب الفلسطيني فقط، وقد ظهرت علامات ذلك بوحدة الساحات، بعد أن كشف التطرف اليميني حقيقة خططه التوسعية على حساب الجيران بالطبع، كل ذلك في ظل صخب عالمي، يظهر بأن عالم الغد لن يكون هو نفسه عالم اليوم، وبالتأكيد ليس هو عالم الأمس، ليس عالم الحرب الباردة، وإذا كان العالم كله يتغير، فيما إسرائيل ما زالت تعيش في الماضي، فلا بد لها أن تدفع ثمناً باهظاً مقابل نشأتها الاستعمارية تلك.