هارتس : خياران لا ثالث لهما: نكبة ثانية أو دولة ثنائية القومية

حجم الخط

بقلم: شلومو زاند


"في نهاية كل جملة تقولونها بالعبرية يجلس عربي مع نرجيلة"، قال مائير اريئيل، في حينه. بهذه الروحية يمكن القول إنه في هامش كل حوار حول الصراع الوطني المؤلم لدينا ما زالت النكبة رابضة. مرت 75 سنة ولم ينس الفلسطينيون. مرت 75 سنة وما زال الإسرائيليون لا يريدون التذكر. ماذا بعد، جميعنا على قناعة، بدون أي شك، بأن ذلك كان ذنب العرب؛ لأنهم هم الذين شنوا الحرب التي جلبت عليهم كارثتهم.
إذا كان من السائد حتى تسعينيات القرن الماضي نفي طبيعة النكبة، والادعاء بثقة أن اللاجئين لم يطردوا أبداً، وأن دعاية العرب هي التي دفعتهم الى الهرب، فإنه منذ أن نشرت أبحاث بني موريس وايلان بابيه وآخرين فان المقاربة تغيرت. فقد عرف الكثيرون عن اعمال الطرد، بل عرفوا عن التوق غير الخفي للتهجير الذي وقف خلفها. مع ذلك، هناك أمر واحد بقي قائماً ايضاً في أوساط الليبرالية الواعية والمتفهمة. صحيح أنه حدث ظلم، لكن رفض العرب الشديد الموافقة على قرار الامم المتحدة 181 الصادر في 29 تشرين الثاني 1947، الذي اقترح تقسيم البلاد، وحقيقة أنهم شنوا الهجوم الواسع على الاستيطان العبري الفتي، هي التي أدت الى هذه المأساة.
سأعترف بالحقيقة؛ حتى أنا كنت أميل لفترة طويلة للموافقة على مبادئ هذه المقاربة التاريخية. كما هو معروف فإنه في حين أن اليمين التنقيحي رفض التقسيم فان كل اليسار قام بتبنيه، وحتى اليسار اليهودي غير الصهيوني، الى درجة أن ستالين أيد في تلك الفترة بانفعال اقامة دولة يهودية، وأمر جميع توابع الاتحاد السوفييتي وأتباعه المحليين بتأييد التقسيم. عرفتُ بأنه بعد عقد ونصف من ذلك، عند انضمام دول مستعمرة سابقاً للأمم المتحدة، فإنه من شبه المؤكد أن القرار المصيري لم يكن مقبولاً، لذلك اعتقدت بأنه من الجيد أن تسلسل الاحداث كان هكذا؛ أُقيمت دولة إسرائيل "بمعجزة" في اللحظة الاخيرة.
مثل الكثيرين لم أتعمق في مبادئ قرار التقسيم. عرفت في مرحلة متقدمة جدا أنه من ناحية جغرافية فان القرار منح منطقة أكبر لليهود (62 في المئة)، وعرفت ايضا أن جزءا كبيرا منها كان صحراء. في العام 1947 كان في فلسطين الانتدابية مليون وربع المليون عربي و600 ألف يهودي، أي 67 في المئة من السكان الأصليين المحليين و33 في المئة من المستوطنين، الذين في معظمهم كانوا مهاجرين جدداً. أخذ قرار التقسيم في الحسبان بأن المهجرين اليهود الآخرين سيأتون في السنوات التالية من المعسكرات في المانيا. لم ترغب معظم الدول التي أيدت التقسيم بهم على أراضيها، وكان من المريح لها أن تؤيد اقامة دولة يهودية على بوابة العالم العربي.
لكن ماذا كانت أُسس التقسيم الديمغرافية لهذا القرار؟ اراضي الدولة العربية العتيدة كان يجب أن تشمل 725 ألف عربي و10 آلاف يهودي. وفي اراضي الدولة اليهودية سيكون 598 ألف يهودي. وحسب جميع الآراء فإن هذا عدد منطقي جدا. كانت مفاجأتي الكبيرة عندما اكتشفتُ بأنه كان يجب أن ينتمي للدولة اليهودية ايضا 497 ألف عربي، أي أن الدولة اليهودية المخطط لها لن تخصص وبحق لتكون "يهودية"، بل ستكون أقرب إلى "ثنائية القومية".
كان نصف مليون عربي تقريباً عالقين في مشروع، من ناحية قومية لم يكن مشروعهم، حتى لو أنه في افضل الحالات كان يحق لهم أن يصبحوا فيه مواطنين إسرائيليين. لذلك، من غير الغريب أن جميع المؤسسات والحركات العربية في فلسطين وفي العالم العربي، باستثناء الشيوعيين العرب أتباع ستالين، عارضوا على الفور التقسيم الذي اعتبر غير منطقي، وبدؤوا اعمالاً عدائية ضد الدولة اليهودية المستقبلية. يمكن الافتراض أنه لو كانت مبادئ التقسيم معكوسة وتميل لصالح الجانب العربي فإن كل اجزاء الحركة الصهيونية، وليس فقط اليمين التنقيحي، سيرفضونها تماماً.
لم تتحقق الدولة "ثنائية القومية" في العام 1947، فقد منعت الحرب والنكبة خلالها تحققها. رغم أن معظم السكان المحليين من الفلاحين العرب لم يشاركوا في المعارك فعلياً، إلا أن نحو 750 ألفاً منهم تم تهجيرهم واضطروا الى ترك اراضيهم داخل اراضي إسرائيل التي توسعت حدودها، وبقي فقط 150 ألفاً منهم في أراضيها. في 1967 فان إسرائيل، التي توسعت اكثر، بدأت مرة اخرى في خلق واقع ثنائي القومية. الـ 150 ألف عربي الذين بقوا فيها في 1948 اصبحوا الآن مليونين؛ 21 في المئة من مواطني إسرائيل. في الضفة الغربية وفي شرقي القدس يعيش تحت حكم إسرائيل العسكري نحو 3.25 مليون فلسطيني آخرين، وفي القطاع يعيش 2.25 مليون عربي. بالإجمال، 7.5 مليون فلسطيني. هذا رقم يساوي عدد الإسرائيليين غير العرب الذين يعيشون بين النهر والبحر، وغير بعيد اليوم الذي سيعيش فيه مليون منهم خلف الخط الأخضر. ورغم عدم المساواة المدنية والقانونية والسياسية والصراع الدموي الذي ينبع من ذلك، إلا أن المجموعتين السكانيتين تندمجان مع بعضهما أكثر فأكثر.
يحلم الكثير من الإسرائيليين في السر بنكبة ثانية، وهم يدركون أن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر فترة طويلة. اليمين الواهم الشريك في الحكم الحالي، يدفع قدماً ليس فقط بزخم المستوطنات، بل أيضاً بانفجار كبير يؤدي الى طرد السكان العرب الى ما وراء نهر الأردن. ولكن مصالح الغرب في الشرق الأوسط تحبط هذه النظرة. طرد 2 – 3 ملايين فلسطيني الى الأردن أو السعودية أو مصر سيؤدي كما يبدو الى انهيار الأنظمة في هذه الدول.
في موازاة هذا الوضع غير المحتمل، الذي ينطوي على الدمار، فإنه على هامش المعارضة الكبيرة للانقلاب النظامي الذي يدفعه قدماً اليمين، بدأت تظهر مرة أخرى أفكار حول الكانتونات والفيدرالية أو الكونفيدرالية. أدى الوعي المتزايد لعدم إمكانية تقسيم البلاد الى طرح أفكار لتقسيم السيادة فيها. هذه ليست أفكاراً أصيلة. فمنذ آحاد هعام وآرثر روبر ومارتن بوبر وحنه ارنديت ويهودا ماغنس وحتى ميرون بنفنستي وأ. ب يهوشع وأبراهام بورغ، تم طرح اقتراحات مفصلة اكثر بقدر معين عن اشكال الحكم المشترك، الى جانب الاعتراف بهويتين منفصلتين لمجموعتين تدمجان معاً في جزء من الأجهزة من اجل اختيار الممثلية السياسية لها وتحول أسس الدولة الى ثنائية القومية.
خيار كهذا لتقسيم السيادة لا يعتبر خياراً مثالياً. وسيادة وطنية موحدة مفضلة عليه أكثر. يجدر ايضا الاضافة بأن أنظمة ثنائية القومية أو متعددة القوميات في شرق اوروبا انهارت في الصراعات القاسية، لكن في اماكن اخرى مثل كندا وبلجيكا وسويسرا واسبانيا وبريطانيا وايرلندا، التي جرت في جزء منها في الماضي البعيد والقريب مواجهات شديدة وعنيفة، فان الأطراف توصلت الى تفاهمات أدت الى حياة مشتركة. عدم وجود خيار آخر، وليس الحب الزائد، هو الذي ادى بالباسك الى العيش مع الكاستليانيين في اسبانيا، ودفع الكاثوليك للعيش مع البروتستانت في إيرلندا. رغم التوتر بين بريطانيا وأسكتلندا في بريطانيا أو بين الفلاميين والفالونيين في بلجيكا، إلا أن هذه الدول الليبرالية ما زالت دولاً فيدرالية مع مواطنة متساوية وسيادة مقسمة.
هل سنتمكن من رؤية اليوم الذي ستقام فيه كونفيدرالية بين إسرائيل والفلسطينيين؟ العقبات كبيرة وشديدة، واحتمالية ذلك ضعيفة. مع التشابه الكبير بين الدين والقومية الراديكالية، سواء في أوساط الإسرائيليين أو في اوساط الفلسطينيين، فإنه يصعب الآن تخيل عملية مصالحة وقبول للآخر. لكن إزاء الشعبين المرتبطين ببعضهما كتوأم سيامي، فان أي بديل آخر لوضع ثنائي القومية يبدو خيالياً جداً.
يذكرني هذا بتجربة شخصية صغيرة: في المرة الأولى التي اجتزت فيها في القطار الحدود بين فرنسا وسويسرا في طريقي الى جنيف، جلست الى جانبي فتاة من سويسرا تتحدث الفرنسية. وعندما اقترب القطار من جنيف سألتها عن المحطة التي يجب عليّ أن أنزل فيها لشرقي المدينة. ذكرت الفتاة لي اسم المحطة. وسألت بسبب لهجتي من أين أنا. قلت لها: أنا من إسرائيل. بعد دقائق ابتسمت وقالت بسخرية: احذر إن أضعت المحطة وواصلت، فأنت ستسقط مباشرة في يد الألمان.

عن "هآرتس"