يأتي اجتماع المانحين في بروكسل في ظل أزمات مستمرة تعاني منها السلطة الفلسطينية وتدهور على كل الصعد السياسية، الاقتصادية، والأمنية، إضافة إلى تراجع دعم المانحين الدوليين، وأزمات عالمية، مما أدى إلى تراجع في النمو الاقتصادي، وتآكل تدريجي في المكاسب المؤسسية والاقتصادية والتنموية للسلطة الفلسطينية خلال ما يقرب من ثلاثة عقود منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، وسنناقش في هذا المقال أبرز النقاط التي وردت في تقرير مكتب منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط (UNSCO) الذي تم ارساله لاجتماع المانحين ((AHLC.
الصعيد الميداني
اعتبر التقرير أن العام 2022 كان الأكثر دموية للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ عام 2005 و"للإسرائيليين" منذ عام 2015، أما في قطاع غزة فقد ساد الهدوء النسبي معظم الفترة وسط ضغوط استمرار حكم حركة حماس والإغلاقات "الإسرائيلية" المستمرة، واستمرار هشاشة الوضع من خلال إطلاق الصواريخ بشكل دوري من غزة على "إسرائيل" والرد بالغارات الجوية "الإسرائيلية" على غزة، كما استمر التوسع الاستيطاني حيث أعلنت الحكومة "الإسرائيلية" في فبراير 2023 أنها سمحت بتسع بؤر استيطانية في الضفة الغربية المحتلة، تلاها تقدم في الخطط لأكثر من 7,000 وحدة سكنية استيطانية كما تم تنفيذ أكثر من 500 عملية هدم خلال الستة أشهر الماضية، منها حوالي 130 مسكناً مأهولاً.
التحدي المالي للسلطة الفلسطينية
بلغ عجز ميزانية السلطة الفلسطينية المتوقع لعام 2023 أكثر من 600 مليون دولار أمريكي، ومن المتوقع أن يصل الدين المتراكم إلى حوالي 9.9 مليار دولار أمريكي بحلول نهاية العام، أي ما يقرب من 50٪ من الناتج المحلي الإجمالي، غالبية ديون السلطة في المتأخرات المستحقة للقطاع الخاص، وصندوق المعاشات التقاعدية، فمنذ عام 2021 تم تقليص أجور القطاع العام لتصبح 80% من الأجر الطبيعي.
كما تتسبب الخصومات التي يقوم بها الجانب "الإسرائيلي" من أموال المقاصة تحت بند مدفوعات الأسرى إلى زيادة الأزمة المالية للسلطة، وقد بلغ إجمالي الأموال الفلسطينية المحتجزة لدى الجانب "الإسرائيلي" وفق التقرير حوالي 800 مليون دولار، إضافة إلى الخصومات "الإسرائيلية" لخدمات المياه والكهرباء التي تقدمها "إسرائيل" إلى الأراضي الفلسطينية (صافي الإقراض)، والتي يبلغ مجموعها أكثر من 80 مليون دولار أمريكي شهرياً.
وقد سجل التقرير انخفاض دعم المانحين الخارجيين للسلطة الفلسطينية بنسبة تزيد إلى 80٪ منذ عام 2013. ففي عام 2013، كان دعم المانحين الخارجيين 4.1 مليار دولار أمريكي، يمثل 33% إجمالي نفقات السلطة الفلسطينية، أما بحلول عام 2022، انخفض إلى أقل من 350 مليون دولار أمريكي، يمثل 3٪ من إجمالي نفقات السلطة الفلسطينية، وتقديرات عام 2023 تبلغ حوالي 300 مليون دولار أمريكي.
كما أن استمرار الانقسام السياسي الفلسطيني الداخلي يعتبر مصدراً لاستمرار فقدان الإيرادات وزيادة الإنفاق من قبل السلطة الفلسطينية وفق التقرير، وتقدر وزارة المالية في السلطة الفلسطينية أن غزة تمثل ما يقرب من 30٪ من نفقات السلطة الفلسطينية و1٪ فقط من إيرادات السلطة، ويذكر التقرير بأن السلطة الفلسطينية لا تحصل على عائدات جمركية من الحركة التجارية عبر بوابة صلاح الدين بين غزة ومصر، والتي تمثل 33% من إجمالي الحركة التجارية إلى غزة.
الإصلاحات المالية والإدارية
ويذكر التقرير بأن السلطة الفلسطينية قامت بسلسلة من الإصلاحات المالية والإدارية، مثل تبسيط إجراءات تحصيل الإيرادات، حيث بدأت بالتطبيق التجريبي الجزئي لنظام ضريبة القيمة المضافة الإلكترونية e-VAT، والذي سيؤدي إلى زيادة الشفافية المالية، وقد ساهم ذلك في تحقيق إيرادات إضافية للسلطة الفلسطينية تقدر ب40 مليون دولار شهرياً، كما طورت السلطة إطاراً مالياً متوسط المدى مع صندوق النقد الدولي سيساهم في زيادة الإيرادات الحكومية، واعتبر التقرير بأن تحويل رواتب العمال الفلسطينيين في "إسرائيل" عبر البنوك سوف يساهم في محاربة العمالة غير الشرعية وبيع التصاريح "السمسرة" مما سيعزز الإيرادات الضريبية للسلطة الفلسطينية.
وتشير التقديرات الرسمية بأن الدخل السنوي للفلسطينيين العاملين في "إسرائيل" والمستوطنات "الإسرائيلية" في الضفة الغربية حوالي 4 مليار دولار أمريكي، وقد يصل إلى 7 مليار دولار أمريكي وفقاً لتقديرات أخرى، وهو أكثر من إجمالي تمويل المانحين للفلسطينيين من جميع المصادر، ويفوق التحويلات الشهرية من "إسرائيل" إلى السلطة الفلسطينية.
قطاع التعليم
ويشير التقرير إلى أن الإنفاق الإجمالي في قطاع التعليم انخفض بمقدار 6٪ تقريباً عن عام 2021 بالقيمة الحقيقية، وقد بلغت حصة التعليم 3.3 مليار شيكل من الميزانية. مع عدم الأخذ بالحسبان الدفعات الجزئية لموظفي التعليم، كما يؤثر هذا النقص في تمويل التعليم على الأسر الأشد فقراً، ولتلبية التوقعات السكانية، ومستويات الخدمة المتوقعة في قطاع التعليم، يقدر أن 600 مدرسة جديدة بحاجة إلى البناء بين عامي 2020 و2025. ومع ذلك، منذ عام 2020 تم بناء 68 مدرسة جديدة فقط في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقد أدى هذا النقص في الاستثمار إلى انخفاض نتائج التعليم، على الرغم من استمرار المستويات المرتفعة مع المقارنات الإقليمية، وقدرت الأمم المتحدة أن 23٪ من الذكور فوق سن 15 قد تركوا نظام التعليم الرسمي، مقارنة بـ 6٪ من الإناث بنهاية المرحلة الإعدادية، حقق 24٪ من الذكور و34٪ من الإناث الحد الأدنى من الدرجات في الرياضيات.
الرعاية الصحية
وفيما يتعلق بالرعاية الصحية فقد كانت في العام 2022، زيادة في إجمالي الإنفاق العام على الرعاية الصحية، وقد بلغ 1.2 مليار شيكل، مثل 15 ٪من الناتج المحلي الإجمالي، استحوذت التحويلات الطبية الخارجية على حوالي 500 مليون شيكل، وقد ورد في التقرير بأن النفقات الفعلية لهذه التحويلات تقدر بأنها أكبر بكثير وقد وصلت إلى 800 مليون شيكل، لعدم وجود قائمة أسعار عالمية لهذه التحويلات.
وقد بلغت ميزانية شراء الأدوية في عام 2022 حوالي 341 مليون شيكل، وتقدر وزارة الصحة أن 40% من الأدوية الأساسية غير متوفرة حالياً في المؤسسات الصحية العامة في قطاع غزة، ولتلبية التوقعات السكانية، يقدر أن هناك 118 عيادة صحية أولية جديدة يجب أن يتم بناؤها بين عامي 2020 و2025. ومع ذلك، منذ عام 2020، تم بناء عيادتين جديدتين للصحة الأولية.
الحماية الاجتماعية
نظراً للأزمة المالية التي تعاني منها السلطة الفلسطينية تم تقليص وتأخير الدفعات النقدية للأسر الأشد فقراً المستفيدين من البرنامج الوطني للتحويلات النقدية (NCTP) والذي يهدف إلى تقديم دفعات نقدية ربع سنوية لهذه الأسر للتخفيف من حدة الفقر، حيث خفضت السلطة الفلسطينية الدفعات في الأعوام 2018،2019، 2020 وقد مثلت دفعات البرنامج 75% من الدفعات في البرنامج العادي، كما أدى تأخر دفع تمويل المانحين الخارجيين للبرنامج إلى تخفيض الدفعات للأسر الأكثر فقراً في الأعوام 2021 و2022 إلى 20٪ و30٪ من البرنامج العادي، على التوالي.
في عام 2023 وبعد انتظام دفع المانحين الخارجيين مساهماتهم في البرنامج تأخرت الدفعة الأولى في هذا العام للأسر المستفيدة لمدة ثلاثة أشهر حتى استطاعت السلطة الفلسطينية في إبريل 2023 من تأمين مساهمتها التمويلية لهذه الدفعة، ومن المتوقع أن يكون هناك دفعتين لهذه العام، وبذلك سيتم دفع 75% من الدفعات المخططة لهذه العام.
اعتباراً من عام 2023، تم تسجيل 130,000 أسرة للحصول على المساعدة من البرنامج الوطني لمكافحة الفقر (أي حوالي 30% من السكان)، وهو ما يمثل زيادة بحوالي 15,000 أسرة، حيث كان العدد 115,000 أسرة كانت مسجلة في عام 2022.
حرية الحركة والتجارة ضرورية لنمو الاقتصاد الفلسطيني:
يشير التقرير إلى أن تحسين وصول الفلسطينيين إلى الأراضي والموارد في المنطقة(ج) يمكن أن يؤدي إلى زيادة إيرادات السلطة الفلسطينية بنحو 6 إلى 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
ويذكر التقرير إلى أن تخفيف بعض القيود المفروضة على قطاع غزة، أظهر آثاراً إيجابية على الاقتصاد في غزة، وكان عاملا ًمن عوامل الاستقرار في قطاع غزة، حيث تم إصدار ما يقرب من 18,000 تصريح لعمال وتجار فلسطينيين من قطاع غزة للعمل أو ممارسة الأعمال التجارية في "إسرائيل". يمكن للعمال الفلسطينيين من غزة الذين يعملون في "إسرائيل" أن يكسبوا عشرة أضعاف متوسط أجر القطاع العام غير المهرة في غزة، وربما يساهموا بحوالي 400 مليون دولار أمريكي في اقتصاد القطاع سنوياً.
ويرى التقرير بأن زيادة حجم البضائع المصدرة من غزة في عام 2022 وخاصة صادات المنتجات الزراعية والتي زادت بنسبة 700٪ مقارنة بعام 2021، ساهم في تحقيق فائدة اقتصادية صافية لاقتصاد قطاع غزة قدرها 56 مليون دولار أمريكي في عام 2022، أي أكثر من ضعف قيمة الصادرات الزراعية في عام 2021. وتتوقع وزارة الزراعة الفلسطينية أن تنمو العمالة في القطاع الزراعي في غزة بنسبة 25٪ في عام 2022، وقد تم إحراز تقدم فيما يتعلق بتخفيف القيود المفروضة على دخول بعض المواد التي تصنفها "إسرائيل" على أنها "مزدوجة الاستخدام" إلى قطاع غزة، بما في ذلك مواد مستخدمة في قطاعي الصحة وصيد الأسماك.
ويوصي التقرير بضرورة إنهاء سيطرة النشطاء الفلسطينيين على قطاع غزة بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن 1890 لعام 2009، التخفيف من القيود "الإسرائيلية" من أجل تعزيز النمو الاقتصادي الفلسطيني وتعزيز الحكم، ضرورة فتح "إسرائيل" لسوق العمل أمام الفلسطينيين وتخفيف القيود المفروضة على حركة البضائع من غزة وتوسيعها وتنظيمها بشكل أفضل لمعالجة مستويات البطالة المرتفعة وتعزيز التأثير إيجابي على الاقتصاد الفلسطيني،
وقيام "إسرائيل" بالإيفاء بالالتزامات الاقتصادية التي تم التعهد بها في العقبة والأردن وشرم الشيخ بمصر، بتيسير من مصر والأردن والولايات المتحدة، وضرورة توسيع الحوار بين الطرفين لمعالجة المزيد من القضايا الأساسية التي تواجه علاقتهما الاقتصادية وخاصة بروتوكول باريس الاقتصادي بهدف تحسين الاقتصاد الفلسطيني وتقوية السلطة الفلسطينية.