تحدثت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي خلال اليومين الماضيين عن موضوعين في غاية الأهمية، ومع ذلك لم تُحظ باهتمام الرأي العام الذي تستحقه، لأن الهموم اليومية للمواطنين تستنزف طاقاتهم وتستحوذ على اهتماماتهم.
فاستشهاد المرحوم الشيخ خضر عدنان والشهداء الذين يتم قتلهم بشكل يومي من جنين الى نابلس الى أريحا وبيت لحم والخليل والحبل على الغارب، يستحوذ على اهتمام الناس في المجالس والشوارع والأماكن العامة. رحم الله شهداءنا الأبرار وألهم أهلهم وشعبهم الصبر والسلوان، ولعل الفرج الذي يظنه البعض بعيدا ً هو أقرب إلينا من حبل الوريد.
الموضوع الأول يتعلق بمفاوضات تجري حول إعادة تشغيل حقل الغاز الذي على شاطئ غزة (غزة مارين) والذي كان حلما ً واكب حلمنا في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الثانية حين كنا نبني دولة ونؤسس لاقتصاد وطني يغنينا عن سؤال اللئيم، ولكن الحلم تبدد وتبدد معه حلم انهاء الاحتلال وإقامة الدولة، فانسحب المستثمر وبقي الغاز في أعماق مياه بحر غزة، وبقينا عالة على الدول المانحة، وعلى ما تتم جبايته من جيوب المواطنين الذين وجدوا أنفسهم يدفعون تكاليف الاحتلال الذي يربض على صدورهم، اذا أخذنا بالاعتبار أن هذا الاحتلال تحول الى واقع دائم وأنه هو المسؤول وفقا ً لمعاهدة جنيف الرابعة عن تأمين رفاهية الشعب الواقع تحت حكمه.
وقد أكدت السفارة الأمريكية في القدس أمس الأول صحة خبر حقل الغاز وأعربت عن الأمل في التوصل للاتفاق بشأنه قريبا ً، وأنه تم بحثه في لقاءات العقبة وشرم الشيخ.
ومما يلفت النظر التأكيد الإسرائيلي المسبق بأنه لن يكون هناك ترسيم للحدود البحرية بين إسرائيل وقطاع غزة، خلافا ً لما حدث بين إسرائيل ولبنان وأن إسرائيل تعتبر أن إدارة واستغلال حقول البترول والغاز في البحر هي من صلاحيات الدول، وأن الفلسطينيين ليسوا دولة ولذا فإنها تقترح بأن تتولى مصر الاشراف على وإدارة وتنفيذ استغلال حقل غاز غزة مارين. ولا شك بأن طرح هذا الموضوع في غياب المصالحة سيضع الوضع الفلسطيني الداخلي على فوهة برميل من البارود.
التحايل لسرقة مستحقات الضرائب
وأما الخبر الثاني فقد روجت له وسائل الإعلام الإسرائيلية وفي مقدمتها صحيفة "يسرائيل هيوم" التي يمولها الملياردير اليهودي شيلدون أديلسون صاحب العديد من كازينوهات القمار بأمريكا والداعم الأكبر لنتنياهو ولليمين الإسرائيلي، والتي توزع مجانا ً وأصبحت تشكل منافسا ً وتهديدا ً لكبريات الصحف الإسرائيلية. والخبر يشكك في مصداقية فواتير أموال المقاصة التي تقدمها السلطة الفلسطينية لإسرائيل لاستردادها باعتبارها ضرائب على واردات فلسطينية. وتدعي الصحيفة بأن التجار الفلسطينيين يستوردون بضائع بواسطة موانئ إسرائيل ويقدمون فواتير مقاصة للسلطة لكي تسترجع الضرائب من إسرائيل، ولكنهم يبيعون هذه البضائع داخل إسرائيل وليس في مناطق السلطة، وبالتالي فإن الضرائب التي يدفعونها يجب أن تذهب لإسرائيل وليس للسلطة. وتدعي أيضا ً بأن هناك تجار فلسطينيون يشترون المحروقات من إسرائيل بسعر مخفض على كوتة السلطة ثم يبيعون هذه المحروقات لمحطات الوقود الإسرائيلية وهذا أيضا يشكل تحايلا وسرقة للضرائب المستحقة لإسرائيل.
ولا أعتقد بأن هذا الخبر جاء عشوائيا ً بل لا بد من التساؤل عما يمكن أن يكمن وراءه.
لقد أثبتت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بأنها تحاول اختلاق التبريرات للاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الضرائب التي تقوم بجبايتها نيابة عن السلطة حسب بروتوكول باريس، فتقوم بخصم مئات الملايين من الأموال المستحقة للسلطة كالادعاء بأنها مقابل ما تزود به السلطة بالماء والكهرباء، أو ديون للمستشفيات الإسرائيلية على السلطة مقابل التحويلات للمستشفيات الإسرائيلية، أو تنفيذا لقرارات المحاكم الإسرائيلية بدفع تعويضات لضحايا العمليات الفلسطينية ضد إسرائيليين، أو مقابل ما تدفعه السلطة من مخصصات لأسر الشهداء والأسرى أو مخالفات سير على الفلسطينيين في شوارع الضفة أو غير ذلك.
ويبدو أنها لم تعد تكتفي بالمليارات التي تراكمت في خزينتها من الأموال الفلسطينية وتبحث عن وسائل لنهب المزيد من الضرائب المستحقة للسلطة الفلسطينية، فبدأت تمهد الطريق للتشكيك في صحة المستندات الفلسطينية التي تُقدم لها.
الدولة الوهمية والسلام الاقتصادي
الحديث عن إعادة تشغيل حقل الغاز المقابل لشواطئ غزة وربطه برفض ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل والدولة الفلسطينية التي يشكل قطاع غزة أحد أقاليمها، يعيد الى الأذهان ما كان قد اقترح في الماضي على القيادة الفلسطينية ورفضته في حينه وهو القبول بحل دولة فلسطينية بدون ترسيم حدودها. وقد أطلق على ذلك اسم provisional borders وهذا يعني عمليا أن للفلسطينيين أن يوهموا أنفسهم بأن لهم دولة وأن يتمتعوا بكل التسميات مثل رئيس ووزير وجنرال وغير ذلك من "ألقاب مملكة كان المطلب الأول والرئيسي للمفاوض الفلسطيني في مفاوضات الماضي والتي كان آخرها أثناء جولات جون كيري 2013-2014 هو أن يتم ترسيم حدود إسرائيل والدولة الفلسطينية، وبعدها يمكن الحديث عن الانسحاب الإسرائيلي واخلاء المستوطنات ولكن إسرائيل كانت ترفض رفضا مطلقا ً أن تقدم أية خرائط أو مقترحات للحدود بينها وبين أراضي فلسطين لأنه لا توجد لديها أية نية للحل أو الانسحاب بل كل ما تريده هو كسب المزيد من الوقت لتكريس الضم والاستيطان.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحديث عن تحسين الوضع الاقتصادي للفلسطينيين وتحسين الوضع المالي للسلطة والسعي لإيجاد موارد مالية ذاتية لذلك من خلال تشغيل حقل الغاز على شاطئ بحر غزة هو بالضبط ما يعنيه الحديث عن الحل الاقتصادي أو تقليص النزاع shrinking the conflict .
ومن منطلق التذكير أقول بأن علينا أن نتنبه لأي محاولة خبيثة لاستغلال حاجتنا المالية وجرنا تدريجيا ً وبدون أن نشعر الى منزلق الدولة الوهمية التي لا حدود لها، والى منزلق الحل الاقتصادي الذي يتنكر وبشكل قاطع للحقوق السياسية والوطنية للشعب الفلسطيني.
نحن نعيش في أدق وأخطر مرحلة من مراحل تصفية القضية الفلسطينية من خلال تسميات براقة تجري جنبا ً الى جنب مع مخطط ممنهج لتصفية روح المقاومة عند الشعب الفلسطيني من خلال عمليات القتل اليومية، وتعميق الشرخ الأفقي والعمودي بين الفصائل والقوى والشعب وتغذيته بالإغراءات حينا والدسائس حينا ً آخر، ولا شك بأن غياب تفويض شعبي من خلال صناديق الاقتراع لمن يتحكم بالقرار السياسي المصيري للشعب الفلسطيني، أو بالموارد الاقتصادية، ينزع الشرعية مسبقا ً عن أية اتفاقيات سياسية أو اقتصادية ويضعها في دائرة الشك والاتهام لا سيما في غياب الشفافية والرقابة والمساءلة البرلمانية.