قبل أيام قليلة من «انتخابات القرن» في تركيا، لا تبدو العواصم العربية الفاعلة شديدة القلق والتحسب لنتائجها. ولو أجريت هذه الانتخابات قبل «الاستدارات الكبرى» في السياسة الخارجية التركية في العامين الأخيرين، لكان منسوب التحفّز «و»حبس الأنفاس» السمة الطاغية على مواقف هذه العواصم. الزمن تغير، ومن كان بالأمس عدواً لدوداً، بات اليوم صديقاً حميماً أو «مشروع حليف».
لا تقف عواصم المنطقة، العربية منها وغير العربية، على مسافة واحدة من قطبَي الانتخابات. هناك قطعاً من يريد أن يرى أردوغان مغادراً قصره الأبيض في أنقرة. ربما تكون دمشق أكثر هذه العواصم رغبة في ذلك، رغم الشوط الكبير المقطوع على درب المصالحة السورية - التركية، وهو شوط ما كان لينجز لولا جهود حليفتَيها الرئيستَين موسكو وطهران، اللتين، وإن اختلفتا مع أردوغان وحكومته وحزبه الحاكم مرات ومرات، فإنهما بلا شك تفضلانه على معارضة لا تُخفي ميولها «الأطلسية».
ولعلَّ الحديث عن خلاف في النظر إلى تركيا بين دمشق وحليفتَيها يندرج في باب «السر الذائع»؛ فدمشق التي لم تنقطع علاقتها بالمعارضات التركية طيلة سني الأزمة، تدرك تمام الإدراك أن لديها فرصة لإبرام اتفاق «مؤاتٍ ومضمون» معها أفضل بكثير من «وعود الصلح والتطبيع» التي قدمها أردوغان لبوتين ورئيسي، والتي تخشى دمشق «مُحقّةً» أن تلقى مصير وعودٍ والتزاماتٍ عديدةٍ سبق للزعيم التركي أن قطعها على نفسه وبلاده وسرعان ما تبخرت، حتى قبل أن يجف حبرها، لكن الزمن مختلف هذه المرة، فتركيا 2023 ليست تركيا 2013، وسورية 2023 ليست سورية 2013 كذلك.
المرجح بقوّة هو أن يواصل مسار المصالحة التركية السورية تقدمه، حتى في حال فوز أردوغان وحزبه في الانتخابات بعد أيام. أما المؤكّد، فهو أنَّ هذا المسار سيكون أكثر صعوبةً وتعقيداً، وسيحتاج إلى جهودٍ مديدة ومريرة لتذليل العقبات والعوائق التي تقف في طريقه، بخلاف الحال مع حكومة تؤلفها «معارضة اليوم»، الأكثر ميلاً واستعداداً للتخلي عن جملة أوراق لطالما عدَّها أردوغان وفريقه الحاكم عناصر قوة وقواعد ارتكاز لنفوذه في سورية.
بهذا المعنى، تبدو دمشق مُحقّةً في تحفظها عن تسريع مسار المصالحة، فاختلاف المصالح والمواقع يفضي إلى اختلاف المواقف، حتى بين الأصدقاء والحلفاء، والأسد نجح في إرجاء «القمة المقترحة» مع أردوغان إلى ما بعد الانتخابات، من دون المجازفة بإغضاب حليفتَيه وإدارة الظهر لمخاوفهما وهواجسهما، مبقياً الاتصالات المباشرة مع أنقرة في مستويات سياسية وأمنية وعسكرية أقل شأناً.
دول الخليج طوت صفحة صراع المحاور و»حروب الوكالة» مع تركيا، وتبدو اليوم أقرب إلى موقع الداعم لأردوغان ونظامه، وإلا لما بادرت السعودية إلى إيداع 5 مليارات دولار في المصرف المركزي التركي لتدعيم مكانة «الليرة» على مسافة أشهر من الاستحقاق الانتخابي، ولما أقدمت الإمارات على ضخ المزيد من الاستثمارات في عروق الاقتصاد التركي، ولما استنفرت قطر كامل طاقتها لدعم حليفها الموثوق في أزمنة المواجهات والمصالحات سواء بسواء.
الاستدارات في مواقف دول الخليج، خصوصاً السعودية، تضعها اليوم على مسافة أقرب إلى أردوغان من خصومه في الداخل، الذين يُخشى تحولهم إلى أداة ضغط عليها تسيّرها واشنطن وفقاً لأولويات إستراتيجيتها في الإقليم.
أنجزت القاهرة أصعب جزء من ملفات المصالحة مع أنقرة، وعمّان تحتفظ بعلاقة أكثر من طبيعية معها، رغم الخلافات والتحفظات التي نشأت في العشرية الفائتة، لكن البلدين، وإن لم يعلنا ذلك، أقرب إلى «الطاولة السداسية» من أردوغان وحزبه. ولا شك في أنهما يعتقدان أن تصفية ذيول خلافاتهما القديمة مع أنقرة ستكون أكثر يسراً وسلاسة مع «الأتاتوركيين» من «الإسلاميين».
في مسارٍ آخر، ورغم ما يُعتقد أنّه انحياز تركي إلى حركة «حماس» في سياقات الانقسام الفلسطيني الداخلي، فإنَّ أنقرة ظلت على علاقة وثيقة مع السلطة والمنظمة والرئاسة، ومؤشر علاقاتها مع «إسرائيل» يراوح ما بين التطبيع ومندرجاته من جهة، والتوتر و»مفرداته» من جهة ثانية.
في كل الأحوال، فإن مواقف تركيا من القضية الفلسطينية تعد أفضل بكثير من مواقف مروحة واسعة من الدول العربية، وهو ما قد يتغير في حال انتقل أردوغان وحزبه من مواقع السلطة إلى مقاعد المعارضة.
الغرب الأطلسي عموماً، وإسرائيل بشكل خاص، أتقنا إلى درجة عالية لعبة «احتواء» أردوغان وتدوير الزوايا الحادة في مواقفه وسياساته، لكن الرجل أتقن بدوره لعبة «التحالف والصراع» مع هذه الكتلة، وحافظ على «استقلالية» ظاهرة في مواقفه وأولوياته، وانتهج سياسات لم تكن مؤاتية للغرب في ملفات حساسة، كروسيا وإيران وغاز شرق المتوسط والأزمة القبرصية والصراع الأذري - الأرميني، ولعب بورقة اللجوء السوري مهدداً أوروبا على حدودها.
وقد بدا منافساً في ساحات ظلَّت حكراً على الاستعمار القديم: أفريقيا مثالاً، وعزز استقلالية قراره الخارجي بنهضة اقتصادية مشهود لها (قبل الانتكاسة الأخيرة)، وبصناعات حربية ودفاعية تثير قلق الأعداء والأصدقاء سواء بسواء.
رجل كهذا غير مرغوب في عودته إلى السلطة، والغرب على ضفتَي الأطلسي لا يُخفي انحيازه إلى المعارضة، وإسرائيل ما زالت تسترجع ذكريات «الزمن الجميل»، عندما وصلت علاقاتها بتركيا إلى ضفاف التحالف الإستراتيجي. أما حديث الغرب، خصوصاً الأوروبيين، عن ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا، فهو حديث «منافق» لا وظيفة له سوى التعمية على البواعث الحقيقية للقلق الغربي من تركيا العدالة والتنمية.
في الخلاصة، إنَّ نظرة الأطراف المختلفة إلى الانتخابات التركية باتت محكومة اليوم بمعايير أكثر عقلانية ومتجردة إلى حد كبير من المشاعر العواطف التي تجيشت في زمن صراع المحاور وحروب الوكالة والاستقطابات الحادة في الإقليم، فالإسلاميون أيضاً، أكثر حلفاء أردوغان رهاناً عليه، ما عادوا على اليقين ذاته بأن لهم «قاعدة ارتكاز» في تركيا بعد المصالحات والاستدارات الأخيرة، ومختلف الأطراف الصديقة والعدوة باتت على دراية بكيفية إدارة علاقاتها مع أنقرة، لا سيما في عامَي التحول في السياسة التركية.
وقد بات لدى كل طرف ما يخشاه ويراهن عليه، سواء عاد أردوغان إلى حكم تركيا أو فشل في ذلك للمرة الأولى منذ عقدين من الزمن، لا سيما في ظل تقديرات تشي بأنَّ رياح التغيير التركية لم تصب الحزب الحاكم فحسب، بل مسّت المعارضات كذلك، التي يعتقد بأنها لن تكون قادرة على محو بصمات «الأردوغانية» في حقل السياسة الخارجية بيسر وسلاسة وزمن قريب.
أهم تغيير سيعصف بتركيا ويصيبها بزلزال سياسي - أين منه الزلزال الذي ضربها بقسوة قبل بضعة أشهر! - سيتركز على السياسة الداخلية، فنجاح المعارضة يعني «تصفية» حساب ثقيل طويل وعريض مع «الأردوغانية»؛ فمنذ أتاتورك، لم يترك زعيم أو حزب أثراً هائلاً في النظام السياسي التركي، وفي بنية المجتمع التركي وتوازناته، وفي علاقات القوة بين المكونات والمؤسسات المختلفة، مثلما فعل أردوغان وحزبه. هنا بالذات ستتركز الصراعات المحلية. وهنا ستتوالى التطورات الأكثر إثارة للاهتمام والمتابعة.