«إلى صديقي زياد عبد الفتاح»
بالعادة ... هناك تقليد نخبوي بين الكتاب بنشر رسائلهم المتبادلة على العلن لأن فيها دوماً ما يثير من الجدل المسلي برائحة المقاهي وصالونات الثرثرة، لكننا ولفرادة قَدَرنا نكتب برائحة البارود ونقيس مقالنا بلون الدم. فرسائل حزننا الملونة بالمأساة الطويلة باتت زادنا وزوادتنا في رحلة الصعود الكبير نحو الأفق أو النفق الذي رأى قائدنا ضوء نهايته ودلنا عليه ومضى.
يا صديقي الكتاب الذين لا يخرّون صرعى في معارك المال هم جيش الضمير كما وصفهم الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، ليس فقط لأن لديهم أمانة القلم بل لأنهم آخر من يسقط في المعارك، لأنهم حارس روحها وحامل صولجانها الذي لا يتعب والذي لا يطاح به كما عبرت في رسالتك لي على وقع رسالتي للطفلة بتول ابنة القائد الإنسان إياد الحسني التي تفتش أجهزة المخابرات عن قُبلة في هاتفها لتقصفها الطائرات.
ما أثارني هو الاكتشاف الكبير لوقع قلمك وقلم الزملاء بأن قصة طفلة وسط غبار المعارك هي جزء من رحلتنا الدامية، لأتساءل لماذا لم نؤنسن قضيتنا إلى هذا الحد ؟. لماذا بقينا نكتب مجردين من العواطف نحصي الصواريخ ونعد الشهداء ونلعن العالم ونقرأ التحولات الخالية من إنسانيتها بعيداً عن دموع حبيبة فقدت حبيبها وطفلة ينتزع قلبها وأم تنتظر وليدها. لماذا يا صديقي ؟
قلت يوماً للصديق الشاعر أحمد يعقوب وهو يحدثني عن ديوانه الأخير: أنتم محظوظون يا صديقي تكتبون عن الوردة والعصفور والحب والشجرة والحلم وقصص العشق، حافظتم على مخزن عواطفكم بل زدتم رصيده أما نحن الذين ابتلينا بمتابعة السياسة فقد أصبحنا باردين بلا عواطف فقد نضب مخزونها وشارف على الإفلاس، أو أن الحرفة حكمت بالقضاء عليه لأن الموت بالنسبة لنا أصبح يعني حصاد المتفاوضين في الغرف المترفة ونكتب عن تسعيرة الدم في بورصة السياسة هكذا هو الأمر تصور ؟ وتعرف ذلك أكثر مني باعتباركم الجيل الأول في كتاب الثورة لكنك بقيت ممسكاً بقلبك تتنقل بين المقال والرواية.
دعنا نستكمل لعبة الحوار الثنائي على الملأ علنا نجد ومعنا غيرنا ما يثير الكتابة وسط زمن الكآبة، نفتش عن عواطف طفلة بين الصواريخ علنا نجد فيها ما يختصر تلك التراجيديا الممددة على مساحة قرننا ونكتشف أن مواطناً أوكرانياً ضاقت به الحياة هناك فهاجر ليصبح طياراً في الجيش الإسرائيلي يلاحق أحلام طفلة وخلفه مجتمع يصفق له على تلك البطولة، لأن والدها يقول: هذه أرضي التي ولدت فيها وأحمل شهادة ملكيتها.
كم هي مثيرة تلك المعادلة ببرود السياسة، أتعرف مدى الخلل الذي يصيب العقل أمامها؟ يعجز عن تفسيرها علماء الرياضيات والفيزياء وعلماء الإنسانية أن يعود الطيار يشرب الشاي مع عشيقته يحدثها عن قدراته الخارقة في التصويب والقتل وتعود الطفلة حاملة يتمها للأبد ...تلك هي العدالة الزائفة التي علينا أن نجردها من ملابسها لتقف بكامل عريها وعورتها أمام محكمة التاريخ، أعرفت لماذا لا ينكسر القلم ؟ لأنه النور الذي يخافه اللص، ولأنه مفتش محكمة التاريخ الذي لا تتم رشوته ولأنه الصولجان المرفوع يدل المتحاربين إلى النصر.
معلمي وصديقي زياد:
أنتم الجيل الذي مهد لنا طريق الكتابة، مثلك أنا أجد نفسي بكامل الوهن أمام طفلة تجردها الحرب من لعبتها وتقص شعرها بجناح صاروخ مجنح لنشعر جميعاً بأن ما نكتبه لا شيء أمام تلك الملاحم والروايات، رغم تواضعك ككاتب ملأ الدنيا حبراً وكتب بقلم الرصاص ليواجه رصاص المعركة ذلك القلم الذي وصفه صديقنا جمال زقوت بالمعتق ...أتعرف ؟ قرأت رسالتك لي وأنا منهمك في قراءة كتابك «صاقل الماس» عن ذكرياتك مع أيقونتنا الكبيرة محمود درويش والذي وصلني متأخراً ... يا لمصادفات القدر، كنت أتعلم منكما كيف يكتب الكبار لتقف أمامي بكامل هيبة تواضعك وأُبهة قلمك وأنت الذي كتبت كل معاركنا تقف باكياً أمام دمعة طفلة يلاحقها من باتت مهمته في التاريخ سرقة الفرح واغتيال الوردة.
كتبك يا صديقي هي الإرث الذي نتكئ عليه ونحن نقف ونحاول الكتابة على الغيم. فكما استوقفتني طفلتك ديما ابنة الأربع سنوات ترتل صلاة الشفاء لمحمود درويش في بيتك حين توقف قلبه عن الخفقان تسمرت أنت أمام الطفلة بتول، تلك طبيعة الأسوياء فنحن جميعاً من لحم ودم وتنهار كل مصداتنا النفسية بل وتتحول روحنا فجأة إلى أشلاء أمام أبسط الأشياء، لأن إنسانيتنا المغدورة تتوق للسكينة فتستنفر كل قرون استشعارها عندما تسقط دمعة وقد سقط منها على أرضنا ما يكفي لتغتسل روح البشرية.
خلف غبار كل معركة قصص تذخر أقلام كل كتاب القصة، وخلف كل صاروخ رواية تراجيدية يتركها واقع شديد العبث وحيث ينتصب شعب بكل تلك الإرادة التي لم يلوثها سوى عبث السياسيين المتناحرين على الحكم وحيث تقف أنت هنا وأنا هناك نقرأ باسم الفدائي الذي خلق ونمسح جبين طفلة لسعها ثعبان اليتم، تعال نحاول أن نقلل جرعة السياسة فيما نكتب ونزيد جرعة القصص هكذا قال الشاعر الصديق ناصر عطا الله، تحت ركام البيوت ما يفيض من العواطف والعواصف والقصص، تعال نبحث عنها وندعو الكتاب لاكتشافها لأنسنة القضية، تلك مهمتي ومهمتك قد ننجح في ترميم القدر أمام أطفال يصارعهم الموت بمخالبه على الفرح.