بدأ جيش الإحتلال الإسرائيلي حملة عسكرية واسعة ومعقدة أطلق عليها اسم (الدرع والسهم) على قطاع غزة فجر يوم الثلاثاء الماضي الموافق التاسع من مايو/ايار الجاري، بتوجيه ضربة مباغتة بواسطة سرب كبير من الطائرات الحربية استهدفت ثلاثة بيوت سكنية تواجد فيها ثلاثة من القيادات العسكرية للجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي (سرايا القدس)، الأمر الذي أسفر عن إرتقاء القيادات الثلاثة وعدد كبير من أفراد عائلاتهم، لاسيما من الأطفال والنساء.
وبعد مفاوضات مضنية وشاقة أجراها الوسيط المصري مشكوراً للتوصل الى اتفاق لوقف النار بين إسرائيل من جهة وحركة الجهاد الإسلامي التي تصدرت المشهد من ألفه الى يائه، أعلن يوم السبت الموافق 13 مايو/ايار، موافقة الطرفين على صيغة مكتوبة لوقف النار تدخل حيز التنفيذ ابتداء من الساعة العاشرة من ليلة السبت، وقد أظهرت الصيغة التي تسربت للإعلام رضوخ إسرائيل للشرط الفلسطيني بالإمتناع عن تنفيذ إغتيالات بحق الأفراد الفلسطينيين، الأمر الذي يظهر تراجع إسرائيل وكسر عنجهيتها، إذ اعتبره المفاوض الفلسطيني خطا أحمر لا يمكن التوصل لأي صيغة لوقف إطلاق النار بدون موافقة والتزام إسرائيل به، فيما اعتبرته الأخيرة خطا أحمر لا يمكن التفاوض عليه.
وكانت إسرائيل قد أعلنت على لسان الناطقين باسمها حكومة وجيش، كما ابلغت بعض الوسطاء أن حركة الجهاد الإسلامي هي الجهة المستهدفة الوحيدة من العملية لمسؤوليتها عن إطلاق الصواريخ على الداخل الإسرائيلي في أعقاب إستشهاد الأسير خضر عدنان يوم الأربعاء الموافق 3/5/2023 في زنزانته في سجن الرملة بعد 87 يوما على اضرابه عن الطعام احتجاجا على اعتقاله التعسفي.
وفي السجال الإعلامي الذي رافق العملية وضح الكثير من السياسيين والعسكريين والإعلامين الإسرائيليين، والخبراء في الأمن القومي الإسرائيلي، ضمن حملتهم الدعائية التي عادة ما تكون جزءا من العملية العسكرية، أن الهدف من العملية هو إستعادة قوة الردع الآخذة في التآكل منذ وقت ليس بقصير، ووقف حالة التدمير المتواصلة في المجتمع الإسرائيلي كما ورد تحديداً على لسان (عاموس يادلين) رئيس شعبة الإستخبارات العسكرية الأسبق (أمان) والرئيس السابق لمعهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي يوم الجمعة الموافق 12 مايو/أيار الجاري، وتفريق الجبهات أو الساحات ومنع توحدها كما ورد تحديداً على لسان رئيس شعبة الإستخبارات العسكرية السابق، والمدير الإداري الحالي لمعهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي (تامير هايمان) يوم الثلاثاء الموافق 9 ايار/مايو الجاري.
وفي استعدادها لحرمان الجهاد الإسلامي من ايقاع خسائر في صفوف الجيش والمستوطنيين في رده المؤكد المتوقع على عملية الإغتيال هذه، فرغت إسرائيل المستوطنات في ما يعرف بغلاف غزة من السكان، وأوقفت حركة المرور على الطرقات في المنطقة، وعطلت الدراسة وفتحت الملاجئ العامة في كثير من المدن الإسرائيلية، ثم اوقفت القطارات وحولت هبوط وصعود الطيران المدني من مطار بن غوريون الى مطارات أخرى في شمال وجنوب البلاد..
من جهتها الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة في غزة بدأت ردها الصاروخي على المدن والمستوطنات الإسرائيلية بعد مرور 36 ساعة على تنفيذ المجزرة ضمن عملية أطلقت عليها إسم (ثأر الأحرار)، الأمر الذي لم يوقف الجيش الإسرائيلي وحسب على رجل ونص كما قالها الأمين العام لحزب الله يوماً، بل أوقف المجتمع الإسرائيلي برمته على رجل ونص، إذ زاد هذا التأخير في الرد الذي يعتبر سابقة في تاريخ الردود الفلسطينية على الإعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة منذ العام 2008، من الإرتباك الإسرائيلي لما انطوى عليه من خداع ومباغتة وتغيير في التكتيكات العسكرية.
وعلى الرغم من النجاح الإسرائيلي في إغتيال مزيد من القيادات العسكرية الوازنة في سرايا القدس، الأمر الذي يجب أن تفحصه السرايا وكل فصائل المقاومة في غزة جيداً لغايات معالجة أسبابه، إلا أن المقاومة الفلسطينية بقيادة الغرفة المشتركة أمطرت على مدى ايام المواجهة الخمسة مساحات واسعة من إسرائيل بمئات الصواريخ التي تحمل رؤوس تفجيرية ضخمة، مما أسفر عن وقوع قتلى وجرحى في صفوف الإسرائيليين، علاوة على إحداث دمار كبير في كثير من المباني والمنشآت، لا سيما في مدن العمق، كما انها أمطرت المواقع العسكرية في المناطق المحاذية لقطاع غزة بمئات قدائف الهاون، وكشفت عبر مقاطع فيديو مصورة أنها هاجمت دوريات ومركبات للجيش بصواريخ الكورنيت المضادة للدروع.
الآن وبعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، هل حققت إسرائيل أهدافها المعلنة؟ هل استعادت الردع المتآكل؟ هل أوقفت التدمير المتنامي في المجتمع الإسرائيلي؟ هل أوقفت وحدة الساحات، وهل أحدثت شرخ بين الجهاد الإسلامي وحركة حماس؟ وهل عزلت حركة الجهاد عن المجتمع الفلسطيني؟
في محاولتها إستعادة الردع، فالردع كمفوم يعني إيصال الطرف الآخر الى حالة تفقده القدرة على عدم الرد على الضربة الأولى التي يتلقاها، أو حتى التفكير بالرد، وفي هذا الشأن قال الجنرال المتقاعد من الجيش الإسرائيلي والباحث الرئيس في معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي (أساف أوريون) مساء يوم الثلاثاء الموافق 9 أيار/مايو خلال لقاء عبر البودكاست مع مجموعة أخرى من الباحثين الرئيسين في المعهد، أن أمام إسرائيل لإستعادة الردع ثلاثة خيارات، الأول ضرب إيران كونها الراعي الرئيس لكل فصائل المقاومة المسلحة في المنطقة، لا سيما حركة الجهاد الإسلامي، وهذا الخيار مستبعد لعدم جاهزية إسرائيل له الآن، والخيار الثاني ضرب حماس كونها الجهة صاحبة السيادة على غزة، وهذا خيار مستبعد وينذر بنوسيع المواجهة الأمر الذي لا يخدم مصلحة إسرائيل، والخيار الثالث هو ضرب الجهاد الإسلامي كونه الطرف الأضعف من بين هذه الأطراف الثلاثة، علاوة أنه الجهة المسؤولة مباشرة عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل قبل لأسبوع من بدء العملية العسكرية.
وعند هذه النقطة أجادل أن مجرد لجوء إسرائيل الى هذه المفاضلة لإستعادة الردع المتآكل، يعني أن قوة الردع التي تعتبر الركيزة الأساسية التي قام عليها الأمن القومي قد وصل الى عدم قابلية المعالجة بوسائل تقليدية، وذلك أولا لإنعدام التماثل في القوة بين إسرائيل الدولة العظمى النووية وبين فصيل فلسطيني صغير، وثانياً لأن هذا الفصيل ورغم صغره مقارنة بدولة إسرائيل، كانت يده العليا في المواجهة الأخيرة وأن قيادته لم ترتدع وبادرت للرد بعد إستيعاب الضربة الأولى، وثالثاً انه علاوة على القوة التدميرية الكبيرة للصواريخ التي استخدمت، فإنها أخرجت القبة الحديدية عن الخدمة وقلصت نجاحها إلى ما نسبته 20%.
وفي محاولتها إستثمار العملية في وقف التدمير المتواصل في المجتمع الإسرائيلي، فأجادل في هذه المقالة أن النتيجة عكسية، إذ ستعود المظاهرات الإحتجاجية للشوارع ابتداء من الأسبوع القادم، كما سيشهد الإئتلاف الحكومي توترات جديدة على خضوع إسرائيل للشروط الفلسطينية، وسنشهد كثير من الهجوم والتقريع للحكومة ولنتنياهو شخصيا على صفحات الجرائد المحلية وعبر وسائل التواصل الإجتماعي، لا سيما وأنه بدل أن تزيد العملية من نسبة الشعور بالأمن لدى المواطن في إسرائيل، زادت من نسبة القلق والخوف وأكدت أن المواجهة القادمة (التي ندعوا الله ان لا تحدث، وأن تقر القيادة الصهيونية وشركائها من الغرب بفشل مشروعهم الإستعماري في فلسطين)، ستكون فيها نسبة الدمار والقتل اكثر بكثير مما كانت عليه الجولة الحالية.
أما في محاولتها تفريق الساحات ومنع وحدتها وعزل حركة الجهاد الإسلامي عن بيئتها الحاضنة، فينبغي التنبيه هنا أنه ومنذ الإعلان عن قيامها العام 1948، فهم المؤسسون الأوائل للدولة أنه وبناء مساحة إسرائيل الجغرافية وامتداد حدودها وإفتقارها للعمق الجغرافي، ولصغر عدد سكانها مقارنة بعدد أعدائها الفلسطينيين والعرب، ولمحدودية مواردها الطبيعية مقارنة بإحتياجاتها الأمنية، فإن الشرط الأهم للحفاظ على الوجود هو منع العرب من التوحد في قوة عسكرية واحدة، ومنعهم كذلك ليس فقط من شن حرب متعددة الجبهات في وقت واحد، بل منعهم من المبادرة لحرب إستنزاف منسقة على أكثر من جبهة.
صحيح أن إسرائيل نجحت في تفريق العرب خاصة في دول الجوار(مصر وسوريا والأردن ولبنان) من التوحد في قوة عسكرية واحدة منذ قيامها حتى بداية الألفية الجديدة عبر وسائل كثيرة أبرزها الوسائل الديبلوماسية، إلا أنه ومنذ بروز مفهوم وحدة الساحات تحاول إسرائيل منع تحول هذا المفهوم الى واقع، والإعلان انها انما تستهدف الجهاد في عدوانها الأخير على غزة ولا تستهدف حماس، هو محاولة للإستعادة تفعيل شرط الحفاظ على الوجود، الأمر الذي فشل من خلال إدارة عملية (ثأر الأحرار) عبر الغرفة المشتركة ضمت الجميع حتى وإن بدى أن الجهاد الإسلامي قد تصدر المشهد لوحده.