في الأسابيع الأخيرة والأشهر الأخيرة بل والسنوات الأخيرة باتت حركة الجهاد الإسلامي تستولي على الفضاء العام في فلسطين، فهي تتصدر مسؤولية إدامة الاشتباك مع إسرائيل محافظة على المعادلة الطبيعية والسوية للعلاقة بين الاحتلال والشعب الخاضع له وهي الصدام، تلك المعادلة التي ما زالت تعطي شرعية والتفافاً شعبياً حولها.
منذ فترة باتت إسرائيل ترى في الجهاد الإسلامي التنظيم المطلوب تصفيته، وقامت في العامين الأخيرين بملاحقة واغتيال قيادته العسكرية تباعاً.
وفي الضفة الغربية بات «الجهاد» متعاوناً مع قوى أخرى يبرز باعتباره رأس حربة الصدام في الضفة بدءا من جنين، وحمل الاحتلال المسؤولية للقيادي فيها الشيخ بسام السعدي باعتباره يتعاون مع مجموعات من حركة فتح.
أول من أمس أقامت الحركة مهرجانات تأبينية في أكثر من منطقة في الداخل والخارج، وكانت المشاركات في مهرجاناتها تعكس قدر الاحترام لهذا التنظيم الذي بات يتصدر عنوان الاشتباك، وهو التنظيم الصغير الذي تأسس كتنظيم عسكري وخلايا مسلحة وليس تنظيماً جماهيرياً، لكنه بدا في الآونة الأخيرة يكتسب زخماً جماهيرياً بعد جولات المعارك التي ملأت فراغ انشغال حركتي فتح وحماس باستحقاقات الحكم وخضوعهما لمعادلاتها الثقيلة حيث تحكُّم إسرائيل بكل إمكانيات الحياة الفلسطينية.
ومع وطأة المسؤولية في ظروفها المعقدة لا بد لتلك المعادلات أن تجعل من حسابات الصدام وثمنه وتأثيره على جودة الحكم وإمكانياته محل مساومات وتفكير، فالحكم يتطلب هدوءا والمقاومة تتطلب صداماً.
تقف حركة حماس في المكان الذي وقفت فيه السلطة بعد تشكيلها. ومع الانتفاضة الثانية كانت المعادلة في غير صالح السلطة حيث وضعت إسرائيل حركة حماس ومسؤوليها على دائرة الاستهداف فيما كانت السلطة ومسؤولوها في وضع حيادي أمام الجرائم الإسرائيلية. وكانت المسألة تطرح تساؤلات كبيرة عن حياد الأخ الشقيق وسط المعركة ما تسبب بتآكل شعبية السلطة وحركة فتح.
وجاءت الانتخابات الأخيرة قبل سبعة عشر عاماً لتترجم حكم الرأي العام الفلسطيني على طرفي المعادلة لصالح حركة حماس التي حافظت على استمرار الاشتباك.
فقد كان للسلطة حساباتها المعقدة ووطأة المسؤولية وحسابات مصالح الناس والاقتصاد والمعابر، أي كانت أسيرة حسابات لحظة وقعت فيها في فخ الحكم.
وبالمقابل تقف اليوم حركة الجهاد الإسلامي في المكان الذي وقفت فيه حركة حماس حيث تبدو أكثر قوة وتأييداً.
هذا ما كانت تعكسه المهرجانات وروح الخطاب الصادر عنها، وحيث تزايد التأييد الشعبي لتنظيم لم يتأسس كتيار شعبي لكن انعكاسات الاحتلال لا بد أن تعيد تركيب المجتمع الفلسطيني كحالة ضدية لواقع يمعن في النيل من الفلسطيني في غزة حصاراً والقدس إهانة والضفة قتلاً واستيطاناً.
كل ذلك يعيد شحن توربينات القهر والكراهية التي تبحث عمن يعبر عنها بالصدام وبات يجدها في حركة الجهاد التي باتت تتنامى معززة بخطاب شديد التواضع داخلياً، وأميل للوحدة والتعالي على صغائر الخلاف في الداخل الفلسطيني.
وحيث يقف قائد حركة حماس في غزة يحيى السنوار في المكان الذي وقف فيه ياسر عرفات وهما الرجلان لم يضعا سوى برنامج الكفاح الوطني ضد إسرائيل والتحرر من الاحتلال، لكنهما وجدا نفسيهما وسط معادلة أكثر تعقيداً حيث استحقاقات الحكم وتقديم النموذج، كان هذا التناقض يفعل فعله لدى ياسر عرفات الذي يرى البساط ينسحب من تحت أقدامه لصالح الأخ اللدود الإسلامي وتتراجع لديه صورة الثائر لصالح صورة الحاكم، وهي اللحظة التي لم يتصورها ياسر عرفات في أسوأ كوابيسه ليحسم الأمر لصالح الثائر مندفعاً في الانتفاضة بكل ما يملك من قوة رغم معارضة بعض زملائه لكنه لا يعيش بغير شعبية طاغية ومسدس يزنر خاصرته.
أغلب الظن أن السنوار ربما بدأ يشعر بفداحة استحقاقات الحكم تحت الاحتلال وتحكمه باستحقاقاته والتعاطي مع معادلاته التي تجعل حركته تقف على الحياد في معركة تشبه التي دفعت حركة فتح والسلطة من صورتها ثمناً لها حين كانت تعجز عن سؤال المخيلة العامة عن الحياد وعجز الدفاع عن شعب تحكمه، هذا التناقض بالقطع سيتم حسمه لجانب الصدام لدى حركة تأسست بفكرة المقاومة وتحمل اسمها ولا تحتمل تراجع شعبيتها إن استمرت المعارك بهذا الشكل كما السنوات الأخيرة لصالح منافس إسلامي بات يتصدر المشهد ويلقي عليها بتساؤلات تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي.
يعني ذلك أن معركة الجهاد الإسلامي الأخيرة بالشكل الذي انتهت به قد مهدت لمعركة أكبر، لكنها المرة القادمة مع حركة حماس تعيد فيها تعديل الصورة التي زادت ترسخاً بعد مسيرة الأعلام في القدس والتي زادت الضغط على صورة لحركة حماس في غير صالحها.
وهنا يبدو حديث إسرائيل عن استعادة قوة الردع وأن حماس مردوعة حديثاً منفصلاً عن محركات الحالة الفلسطينية، فهي تفشل مراراً في قراءة الفلسطينيين ودوافع محركاتهم.
في تشرين الأول 2018 وافقت إسرائيل على السماح بإدخال أموال من قطر لصالح حماس في غزة، وكانت تسعى لتمرير دورة انتخابية إسرائيلية هادئة، فتكررت الانتخابات لتمدد إسرائيل الأمر ثم تكتشف أن تلك المنحة تصلح لصناعة مقاربة جديدة مع الحركة.
وفي معركة العام الماضي إثر اغتيال القيادي في الجهاد الإسلامي تيسير الجعبري ولضمان حياد حماس تعلن إسرائيل دخول العمال للعمل في إسرائيل ومن ثم زيادة أعدادهم.
وهذا ما أشار له عاموس هرئيل في «هآرتس» أول من أمس بقوله إن هناك ما يدعو حماس للحياد. لكن يبدو أن إسرائيل وكتابها لا يعرفون الفلسطينيين جيداً وكما ضحى ياسر عرفات بكل شيء لصالح تصويب المعادلة فإن حركة حماس ستكون أسرع بعد ما صاحب مسيرة الأعلام من جدل على حسابها، هذه ليست بشرى سارة لأهل غزة لكنها واقع الفلسطينيين.