وإن من بعيد، يزعج حديث المؤتمرات أو المبادرات الدولية، الحكومة الإسرائيلية، التي ترى في عدم اهتمام العالم وحتى الإقليم بما تقوم به من عمليات قتل واعتقال يومي وتدمير ممنهج للاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية، أمراً مريحاً لها لتستمر في احتواء الموقف والسيطرة عليه، دون أن تضطر لتقديم أدنى تنازل، ولو حتى كان ذلك على شكل موقف سياسي.
الحديث عن تحرك لجامعة الدول العربية ومحاولة استثمار وجود مصر كعضو في مجلس الأمن، جاء عابراً، كذلك جاء «تجديد» الحديث عن المبادرة الفرنسية، لمنع وصول اليأس في عام الانتخابات الرئاسية الأميركية إلى أبعد مدى، حتى لا تزداد المنطقة التي أغرقت أوروبا العام الماضي بالمهاجرين اشتعالاً، في الوقت الذي لاحت فيه بارقة الروس بوضع حد خلال هذا العام للحرب في سورية.
لا يبدو أن هناك حدثاً دراماتيكياً في الأجواء الفلسطينية، بما في ذلك حديث المصالحة، أو حديث الحرب بين إسرائيل وغزة، وآخر حرب وكانت الثالثة بين الجانبين، حدثت قبل عام ونصف، في تموز / آب 2014، وكانت لتحقيق هدف سياسي / عسكري إسرائيلي، تمثل الشق السياسي منه بتجنب انتفاضة ثالثة في القدس والضفة الغربية بعد حرق الفتى أبو خضير، والعسكري بتدمير الأنفاق الهجومية لحركة حماس، التي شرعت منذ وقت بحفرها على طول الحدود بين غزة وإسرائيل.
كان يمكن أن يحدث قبل بضعة أشهر أمر مشابه، لولا أن المواجهة في القدس والخليل، جاءت دون مستوى الانتفاضة الشعبية العارمة، التي تشمل كل مدن وقرى الضفة مع إسناد سياسي داخل إسرائيل بفلسطينييها بالتظاهرات مثلاً، لكن اقتصار المواجهة على شكل هبة شبابية، أبقى لإسرائيل القدرة على احتمال الأمر، ولم يضطرها لشن حرب هروبية على غزة.
مع ذلك تبقى الأنفاق مزعجة بالتأكيد لإسرائيل، وحين تجد حكومة نتنياهو أنه لا مفر من شن حرب على الأنفاق، فإنها ستفعل، لكن إسرائيل تظل تفضل المعالجة الفنية وحتى السياسية، وإذا كانت مصر والتي هي أقل قدرة فنية وتكنولوجية من إسرائيل قد وضعت حداً لأكثر من ألفي نفق بينها وبين غزة، دون أن تضطر لشن حرب على غزة من أجل تحقيق الغرض، فإنه يمكن لإسرائيل في نهاية المطاف أن تفعل الشيء ذاته!
حديث الأنفاق إذن بين إسرائيل وحماس، له أهداف سياسية أكثر منها عسكرية، بتقديرنا، ذلك أنه لا بد من ملاحظة أن غياب حديث قوارب كسر الحصار طوال عام 2015، جعل من حماس أكثر طواعية لمحور قطر / تركيا هذا المحور الذي لا يكن العداء لإسرائيل، ما جعل من إسرائيل أكثر اطمئناناً تجاه حماس.
لكن استمرار الحديث عن وجود احتكاك ما، أو توتر على جبهة غزة، يهدف إلى تحقيق أمرين في آن معاً: الأول هو أن حماس ما زالت لاعباً سياسياً يتملك أوراقاً ما، وأنها تحضر لعملية تبادل أسرى، فلأول مرة يتحدث أحد قادتها عن أسير وتذكر اسمه وكأنه حي، بعد أن اتبعت الحركة سياسة يبدو أنها لم تنطل على إسرائيل ومفادها بأنها لن تقدم معلومات مجانية، مع أن كثافة النيران وسياسة حرق المنطقة التي قامت بها إسرائيل في النفق الذي خطف فيه الجندي الإسرائيلي رجحت قتله ومختطفيه، والثاني هو الضغط على السلطة التي تبدو في حالة ضعف بينة، ربما أيضاً لقطع الطريق على محاولة تنفيذ خطوة عملية على طريق المصالحة، فيما يشاع بأنه محاولة التوصل لاتفاق الجنتلمان في قطر.
في كل الأحوال، بتقديرنا اضطرت حماس هذه الأيام لرفع وتيرة الحديث عن الأنفاق، للتخفيف من وطأة معاناة قطاع غزة، وانسداد أفق فتح المعبر، فضلاً عن كسر الحصار، خاصة بعد استشهاد سبعة قساميين في حادثة انهيار نفق قيل إنه قديم وكانوا يحاولون ترميمه، وقد سبق وأن كانت هنالك إعلانات أكثر من مرة عن قضاء قسامي في مهمة جهادية، لكن العدد المرتفع هذه المرة، دفعهم «للدفاع» عن سياسة الاستمرار في حفر الأنفاق المكلفة مالياً في قطاع يعتبر من الأكثر فقراً في العالم.
كما أن حماس تستمر في ترويج بضاعتها العسكرية، بعد أن سبق لها وقدمت العلميات الاستشهادية ومن ثم الصواريخ، ها هي تقدم الأنفاق كسلاح ردع، في مواجهة الترسانة العسكرية الإسرائيلية التي تمتلك قوة نووية تضم أكثر من مئة رأس نووي، لكن أخطر ما في الأمر _ برأينا _ هو أن استمرار الحديث عن وجود مجابهة عسكرية بين الإسرائيليين والفلسطينيين على حدود غزة، يكرس مفهوم «الحرب» ليس بين دولة احتلال وشعب محتل، بل بين دولة وكيان لا بد من التوصل لحل بينهما، يؤكد أن دولة فلسطين، هي في جنوب المنطقة، أي في غزة التي لا بد أن يجيء يوم ما وتفاوض، ليس على هدنة عسكرية وحسب، بل على كل بنود الملف الفلسطيني، بعد أن تصبح هي الطرف الفلسطيني الوحيد أو الأول على الساحة السياسية!