يخطئ مَنْ يعتقد أن إسرائيل بكل مكوناتها ما زالت معنية بعملية "السلام"، فمنذ انتهاء المرحلة الانتقالية في 4/5/1999، واندلاع انتفاضة الأقصى في أواخر أيلول من العام 2000، وما رافق ذلك من استخدام مفرط للقوة العسكرية، والذي تمثل بالقتل وهدم البيوت وحصار المدن والقرى والمخيمات وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإعادة السيطرة العسكرية المباشرة من جديد، من قبل جيش الاحتلال، على مناطق "أ"، كل ذلك مهد لتغيرات جوهرية في سياسية إسرائيل تجاه عملية التسوية.
أولى تلك التغييرات كانت عدم المضي قدماً في التفاوض حول قضايا المرحلة النهائية، والثانية التراجع والتحلل من التزاماتها تجاه المرحلة الانتقالية، وثالثاً وهي الأهم بقاء إسرائيل في الأراضي المحتلة وتعزيز الاستيطان بكل أشكاله ومسمياته وتوسيع القائم منه، ومصادرة الأراضي وشق الطرق الالتفافية، وبناء قواعد جديدة للجيش بما فيها مناطق الرماية، هذا إلى جانب الالتفاف على كل المبادرات السياسية التي طرحت خلال انتفاضة الأقصى، بهدف الوصول إلى تسوية سياسية دائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مثل مبادرة السلام العربية التي أقرتها القمة العربية المنعقدة في بيروت عام 2022، أو "خارطة الطريق" في العام 2003.
عملت إسرائيل بكل ما استطاعت من قوة خشنة أو ناعمة على تغيير قواعد اللعبة من خلال فرضها لحقائق جديدة على الأرض ، معطيةً لنفسها هامشاً ومتسعاً من الوقت للتحلل رويداً رويداً من اتفاق أوسلو دون أن تدفع أي ثمن سياسي، عبر استثمار كل المعطيات والمتغيرات المحلية والعربية والإقليمية والدولية لوضع سياسات وإجراءات جديدة تحدد من خلالها شكل وطبيعة ومرتكزات علاقتها مع السلطة الوطنية الفلسطينية من الناحية الأمنية والسياسية والاقتصادية ، مما شَكَلَ تراجعاً كبيراً، حد الإلغاء، لما تم التوصل إليه عبر المفاوضات مع الفلسطينيين. وما زاد الأمور تعقيداً أنها عادت للتفاوض من جديد مع السلطة الوطنية الفلسطينية على قضايا كانت في الأصل متفق عليها عبر المفاوضات .
بما لا يدع مجالاً للشك أن إسرائيل ماضية في سياساتها واستراتيجياتها ضد الشعب الفلسطيني، وأن ما تقوم به في الأراضي المحتلة تعبير جلّي عن سياسة عنصرية استعلائية ممنهجة، مستندة بذلك إلى الحلول الأمنية والقبضة الحديدية في تعاملها مع الشعب الفلسطيني وتطلعاته السياسية، فالاقتحامات اليومية للمدن والقرى والمخيمات، وما يرافق ذلك من انتهاكات جسيمة تتمثل بأعمال القتل والاغتيالات والاعتقالات، فقد بلغ عدد الشهداء عام 2022 (226)، منهم (55) طفل/ة، كما بلغ عدد الشهداء حتى 17/05/2023 (157) منهم (27) طفل/ة.
يضاف إلى ذلك القيود المشددة المفروضة على حرية الحركة والتنقل وإغلاق وحصار المدن والقرى والمخيمات، والتصعيد في سياسة هدم البيوت والمنشآت الأخرى ، ففي العام 2022 هدمت قوات الاحتلال (714) منشأة، وحتى نهاية شهر نيسان 2023 هدمت (264) منشأة فلسطينية. ولا زال التهجير القسري، ومنع الفلسطينيين من البناء في مناطق (ج)، أو الاستثمار فيها، ومصادرة الأراضي لبناء مستوطنات جديدة أو لتوسيع القائم منها، سياسة ممنهجة لدى إسرائيل تهدف من خلالها إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، ناهيك عن الاعتداءات اليومية للمستوطنين بحماية جيش الاحتلال على المواطنين، حيث لم يعد المستوطنون مجرد ناهبي أرض، بل مليشيات مسلحة هجومية تمارس القتل والتنكيل.
ولا يقل الوضع مأساوية في مدينة القدس المحتلة، حيث تتعرض هذه المدينة إلى عمليات تهويد وأسرلة ممنهجة تتمثل في تغيير أسماء الشوارع، واحتلال البيوت العربية، وفرض إجراءات إدارية وقوانين تقيد حق الفلسطينيين في ممارسة حياتهم اليومية الطبيعية، بالإضافة إلى الاعتداءات التي تطال الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية، وبخاصة الاقتحامات اليومية، من طرف المستوطنين، للمسجد الأقصى، كذلك الاعتداءات المتواصلة التي تطال المواطنين الفلسطينيين في القدس، والتضييق عليهم، وعدم منح المواطنين رخص للبناء، وفرض المنهاج الإسرائيلي على المدارس الفلسطينية، وسحب الهويات من المقدسيين، وتشجيع ظاهرة ترويج وتعاطي المخدرات ذات المصدر الإسرائيلي، وغيرها من السياسات التي تهدف إلى تفريغ المدينة من المواطنين الفلسطينيين. فالحرب على القدس وفي القدس هي حرب على الديمغرافيا والجغرافيا ، وعلى الأسبقية التاريخية ، بمعنى آخر هي حرب على الرواية.
باختصار هذا هو المشهد اليومي السائد في الأراضي الفلسطينية، والذي يتكرر من رفح جنوباً حتى جنين شمالاً، أما غزة فحصارها غير مسبوق، وحروب عدوانية عليها، كلما لاح في الأفق بوادر أزمة داخلية في دولة الاحتلال. إذاً، هي سياسة موجهة بما تشمله من إجراءات تشكل بمجملها انتهاكات وجرائم مكتملة الأركان يقترفها جيش الاحتلال والمستوطنين بحق المدنيين الفلسطينيين، في انتهاكٍ صارخ للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وللقانون الدولي الإنساني، وفي مقدمته اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، واتفاقيتي لاهاي.
سياسياً ، الحكومة الحالية كما الحكومات السابقة ، بل والحكومات الإسرائيلية اللاحقة ستبقى سياساتها وإستراتيجيتها وفكرها السياسي مستندة إلى أيديولوجيتها الدينية القائمة على أساس أن هذه الأرض هي أرض (الميعاد) ، وبالتالي لا عودة جدية لطاولة المفاوضات من أجل إنجاز التسوية، وفي أحسن الأحول ستكون مفاوضات ولقاءات تخدم المصالح الإسرائيلية وذات صبغة أمنية، أو من أجل نقاش بعض القضايا الإنسانية (تسهيلات) حسب المفهوم والسياسة الإسرائيلية كلما تطلب الأمر ذلك. واستمرار سياسة القبضة الأمنية العنيفة ، بما فيها الحلول الأمنية لمواجهة شعبنا ، واستمرار استباحة مختلف الأراضي الفلسطينية المحتلة . ومزيد من ضم الأراضي الفلسطينية للمستوطنات. وتقطيع لأواصل الأراضي الفلسطينية ، بحيث ألا يكون هناك تواصل جغرافي فيما بينها ، واستمرار "أسرلة" مدينة القدس ، وتهجير المواطنين الفلسطينيين منها . واستخدام الضغط المالي على السلطة الوطنية كأداة . والاستمرار في انتهاج سياسة العقوبات الجماعية . بما فيها حصار قطاع غزة ، والعدوان عليه . كل ذلك من أجل ألا يكون في نهاية المطاف دولة فلسطينية مستقلة .
صحيح أن إسرائيل يمكن أن تقبل في أحسن الأحوال بكيان فلسطيني ، ولكن بمقاس وتفصيل إسرائيلي كامل هو أقل من دولة ، وبما يشبه حكم ذاتي مقيد ، وذلك استناداً للرؤيا الإسرائيلية . فاليوم ما يعني إسرائيل هو استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية والحفاظ على الوضع القائم .
أما مستقبل السلطة فإنه مرهون بالدور (الوظيفي) لها من وجهة النظر الإسرائيلية، وبمدى انسجام وجود السلطة مع سياسات الاحتلال واستراتيجياته، فاليوم تنظر إسرائيل للسلطة الوطنية على أنها حاجة إسرائيلية، وبذلك فهي مستعدة للحفاظ على الحد الأدنى من وجودها ، كسلطة بلا صلاحيات فعلية ، لعدد من الأسباب: أولها، أن السلطة تشكل اليوم عنواناً ومرجعية للفلسطينيين على الأقل في الداخل، وأن وجود السلطة على الأراضي الفلسطينية (ولو على بعضها) يعفي إسرائيل كدولة قائمة بالاحتلال أمام المجتمع الدولي من مسؤولياتها الإدارية والمدنية بموجب القانون الدولي الإنساني، وقانون حقوق الإنسان، بما في ذلك الخدمات التي يجب أن تقدمها للشعب المحتل مثل التعليم والصحة، والخدمات الحياتية الضرورية الأخرى.
كما أن استمرار وجود السلطة يعفي الاحتلال من توفير ميزانيات كبيرة وكتائب عسكرية لبسط النظام والأمن داخل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية بشكل دائم، فهي تريد أرضاً بلا سكان، وأن وجودها أيضاً يساعد دولة الاحتلال في توفير الأمن للمحتلين، والسبب السياسي الأهم لوجود السلطة من وجهة النظر الإسرائيلية في أن تبقى السلطة في وضعها كسلطة فقط ، لكي لا تتحول السلطة إلى دولة ، وبالتالي قطع الطريق أمام الفلسطينيين ، لإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني، بحيث ألا تشكل الدولة العتيدة مستقبلاً أي خطر وجودي على إسرائيل.
استمرار وجود السلطة، على ما يبدو،مرهون بسياسة إسرائيل ومصالحها واستراتيجياتها وبرؤيتها من وجود السلطة ووظيفتها، أي عندما تصل إسرائيل إلى نتيجة مفادها أن لا فائدة ولا طائل من وجود السلطة، فستبدأ بإضعافها بطرق شتى، وإذا لزم الأمر حسم الموضوع دون مقدمات، من خلال تدمر المؤسسات المدنية والمقرات الأمنية، مستندة إلى تفوقها وقوتها العسكرية، ولكنها الآن ليست بوارد ذلك، ليس حباً في السلطة،أو خوفاً من ردود فعل المجتمع الدولي،وإنما انطلاقاً من مصالحها. فإسرائيل اليوم أكثر من أي وقت مضى هي من تحدد قواعد اللعبة على الأرض.
هذا السياسة والإستراتجية تستند إلى أيديولوجية الأحزاب الصهيونية ومنطلقاتها الفكرية، يضاف لذلك التطلعات الشخصية لنتنياهو ، وأيضاً لتطلعات قادة تلك الأحزاب ، فنتنياهو لديه طموح شخصي أن يبقى في سدة الحكم، إذ سيفعل ما بوسعه من أجل البقاء في سدة الحكم والحفاظ على الائتلاف الحكومي. فنتنياهو لن يخسر شيء من (جيبه) بهذا المعنى الضيق، القصد هنا أن الذي سيدفع ثمن استمرار حكومته والحفاظ على الائتلاف الحكومي هو الشعب الفلسطيني، فكلما كان هناك تصعيد ضد الفلسطينيين، ومزيد من الاستيطان، والقتل، والاعتداءات على المقدسات الدينية، وبخاصة المسجد الأقصى، كلما كان حلفاء نتنياهو راضون عن أداءه تجاه الفلسطينيين، وبالتالي الائتلاف الحكومي يتزعزع ويسقط فقط، إذا كان هناك مفاوضات جدية مع الفلسطينيين، أو كان هناك عرقلة للاستيطان، أو ما شابه ذلك .
لذلك الحكومة الإسرائيلية الحالية، وكذلك الحكومات الإسرائيلية اللاحقة ستكون استمرار لذات النهج، بل أن هذه الحكومة وبما أنها تضم مستوطنين ومتطرفين فيها، سيعني مزيد التصعيد الإسرائيلي في وتيرة الأحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى مختلف الصعد والجبهات.
لذلك المطلوب اليوم فلسطينياً تمتين الجبهة الداخلية واستعادة الوحدة الوطنية عبر الشراكة السياسية، واتفاق على برنامج سياسي، هذا إلى جانب توافر الإرادة السياسية، واحترام لكل القرارات التي اتخذها المجلس المركزي الفلسطيني. والطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة لمحكمة العدل الدولية إصدار فتوى بشأن النقل المحظور لأعداد من المواطنين الفلسطينيين من قبل الاحتلال، والطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة التقدم لمحكمة العدل الدولية لإصدار فتوى حول مدى شرعية وعد بلفور الذي مهد لقيام دولة الاحتلال.
وتقدم دولة فلسطين طلباً للأمم المتحدة بضرورة تطبيق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (181)، والطلب بشكل مستمر من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان اتخاذ إجراءات وتدابير بشأن الانتهاكات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة.
كذلك قيام السلطة بمطالبة للأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة الوفاء بالتزاماتها الواردة في المادة الأولى من الاتفاقية والتي تتعهد بموجبها بأن تحترم الاتفاقية وأن تكفل احترامها في جميع الأحوال، كذلك التزاماتها الواردة في المادة (146) من الاتفاقية بملاحقة المتهمين باقتراف مخالفات جسيمة للاتفاقية، والمادة (147) من ذات الاتفاقية، هذا إلى جانب الآليات التعاقدية الأخرى، وإجراء تحقيق شامل في الأنشطة التجارية التي تباشرها الشركات والمؤسسات المالية المسجلة في بلدانها والمستفيدة من المستوطنات الإسرائيلية وغيرها من الأنشطة، والعمل على خلق رأي عام دولي مساند لشعبنا ومناهض لدولة الاحتلال من خلال المؤتمرات والندوات ومعارض الفنية والصور والمقالات، ونشاط أكبر وأكثر للدبلوماسية العامة وللدبلوماسية الشعبية.