تـقـاسـم الانـقـسـام..!

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

 

لو أقام الفلسطينيون مسابقة لمن يعرف عدد الحوارات التي جرت بين حركتَي «فتح» و»حماس»، وأسماء العواصم التي جرت فيها تلك الحوارات، أظن أنه من الصعب إيجاد إجابة دقيقة؛ لكثرة ما استهلك الفلسطينيون أنفسهم وهم يربّون الأمل وسط البطالة المنتشرة في حقلهم السياسي الذي أصيب بالجفاف.
في هذه الأيام يحيي الفلسطينيون الذكرى الثانية لمأساة إلغاء الانتخابات الملغاة دوماً وأبداً، ويحيون الذكرى السادسة عشرة لكارثة الانقسام الذي أزمن؟ وبعيداً عن حزيران الكئيب، منذ تكفلوا بصناعة مأساتهم المستمرة التي تحولت مع الزمن إلى حالة ساخرة من الأداء السياسي غير المفهوم، وربما يحتاج تفسيره إلى ما هو أبعد من فقر الخبرة أو فقر الحيلة نحو فقر المسؤولية عن قضيتهم التي ملأت الكون يوماً، لتنتهي بصراع مخجل بين أبناء الحركة الوطنية الفلسطينية، تصادفت مع غياب الأب المؤسس، ليظهروا كأنهم لم يبلغوا سن الرشد السياسي بعد.
وغابت المصالحة عن عناوين الفلسطينيين، وتآكلت كما تآكل كل شيء، كانت آخر مرة في الجزائر التي ظنت كما ظن غيرها أن المسالة تتعلق بحداثة التجربة لدى الفرقاء، وأن على دول عريقة أن تأخذ بيدهم، قبل أن تكتشف أن لديهم من خبرة المناورات والمصالح ما يجعل أكثر دهاة التاريخ ينحني خجلاً من تواضعه أمامهم.
كانت القاهرة، التي أصابها السأم من مسلسل المصالحة الرتيب، تستقبل هذا الأسبوع الحكومة والفصائل بحركة سياسية نشطة لم تُحيِ لدى الفلسطينيين الملدوغين من جرة حبل الحوارات كثيراً من الأمل؟ لكن كان السؤال المرافق الآخذ بالخفوت: هل يمكن أن ينتج شيء عن هذه الحركة؟ دون أن يلحظ الفلسطيني أن لقاءات القاهرة لم تتضمن أي حوار أو لقاء ثنائي بين الإخوة الألداء، وكأن المصالحة باتت جزءاً من الماضي، فقد بدا المزاج العام الفلسطيني كمن استسلم لواقع أصبح فيه الانقسام بين الضفة وغزة ثابتاً، وبنظامَي حكم كجهتين مختلفتين.
لسنوات أصبح الانقسام جزءاً من المشهد الفلسطيني العام دون أن يدرك صانعوه أنهم أطاحوا بصورة الفلسطيني الناصعة؟ وأضاعوا تعاطف الأصدقاء الذين لم يتوقفوا عن الاندهاش بما فعله الفلسطينيون بأنفسهم، وكيف يستمرون بالتنكيل بقضيتهم إلى هذا الحد، وكيف بددوا كل مدخراتهم في لحظة فشلوا خلالها في اقتسام السلطة فتقاتلت القبائل.
وبدلاً من تقاسم السلطة اتفقوا - دون اتفاق - على تقاسم الانقسام، أليس في هذا ما يدعو للأمل بسخرية جارحة أو للألم الناتج عن هذا العبث المستمر؟ كيف فشلوا وما زالوا يفشلون في بناء نظامهم السياسي في برلمان واحد لقضية لو توحّد فيها كل الفلسطينيين بالكاد ستكون لديهم قدرة على المزاحمة، بات واضحاً من التجربة أن الانقسام وفّر لكل منهم حكماً فردياً مريحاً لا يشاركه فيه آخر، يتحكم بموازنة وأجهزة أمن ويدير سياسة متحرراً من الشراكة والتنازلات؛ فقد حرر الانقسام طرفَيه من الانتخابات ورقابة الشعب المسلطة وشفافية الموازنة واستقلال القضاء.
لم يعد هناك تداول للسلطة بين الأحزاب أو بين الأفراد، أليس هذا ما يتمناه من لا تشغله سوى حساباته الصغيرة؟ لقد احتفظ كل منهم بمنصبه الذي أهدته له السماء أو أهداه له شعب حالم قبل سبعة عشر عاماً، بل ووفر الانقسام قدراً أكبر لكل جهة من الشواغر التي كان سيتقاسمها مع الآخر الذي سيكون قيداً ورقيباً، فلم يعتد الفلسطينيون على امتداد تاريخهم تجربة الشراكة، فقد تجلى التفرد بصورته القاتمة.
وفود تذهب، وأخرى تعود، ومواقع لبيع الوهم تضخمت بالتوازي مع صفرية الإنجاز، فلا الدولة أقيمت حسب البرنامج الذي انجر إليه الشعب الحالم، ولا الحصار ارتفع عن غزة بوعد تجاوز عقداً ونصف العقد، لينتهي بفتات مكرمة لا تسمن ولا تغني جوع شعب وصل أنينه حد السماء، ولا المواطن عاش بكرامة لا شخصية ولا وطنية.
لماذا أزمن الانقسام؟ ولماذا احتاج الفلسطينيون دوماً مساعدة عواصم عربية فشلت مراراً؟ ولماذا فشلوا بقواهم الذاتية في التخلص من هذه الحالة الشاذة؟ ربما أن هذا ما أجاب عنه عدد من الزملاء الذين أثارهم كيف انتفض شعب اسرائيل لتصويب مساره والحفاظ على نظامه القانوني، فيما لم يفعل الشعب الفلسطيني أي شيء لتصحيح الخراب الذي أحدثته مغامرات القوى ودمّر كل شيء، ولم يدافع عن قراره وخياره وحقه؟ كانت تلك تساؤلات زملاء نقلتها الصحافة الإسرائيلية وهي مقارنة مؤلمة، ربما لأن حسابات الشعب لم تكن أكثر نقاء من حسابات السياسيين؛ حيث النظر للأمر من جهة المصالح الخاصة، وليس المصلحة العامة، وتلك معضلة أخرى لا تقل فداحة عن عبث الساسة.
لقد تعرض جزء كبير من الشعب لرشوة الحكم والمال، وهذا الجزء احتكر القوة فحافظ على الانقسام؛ ليحافظ على ما تحقق له من تغير اقتصادي اجتماعي، فبالحسابات الشخصية تحسنت حالة الكثير من أفراد الشعب المؤيدين للفصائل المتصارعة.. هؤلاء كانوا الكتلة الأكثر تنظيماً وقوة وامتلاكاً لممكناتها، لذا كانت المقارنة مع تظاهرات إسرائيل بعيدة عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للفلسطينيين كحالة فريدة في تشوهها، وتلك نتيجة مأساوية.
لقد تم توقيع ما يكفي من الاتفاقيات بين الخصوم، التي أحيلت لمخازن التاريخ الفلسطيني الحزين، ومع تكرارها فقد الفلسطينيون الأمل ولم يعودوا يصدقون أي شيء؛ لأن ممكنات قوة الانقسام كانت أكبر من ممكنات إنهائه، ليس فقط فلسطينياً، بل إن المشروع الإسرائيلي يلقي بثقله خلف مشروع الانقسام، هكذا قال نتنياهو. لذا لم يكن الفشل الدائم مجرد خلل فني يتكرر، بل أعمق كثيراً.