مراجعات عبرية .. حول الفاشية الإسرائيلية !

131
حجم الخط

يبدو أن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، وقبل أن يترك رئاسة المنظمة الدولية، فعل كما أراد أن يفعل كثيرون غيره، أن يسجل اسمه في التاريخ، وتحديداً تاريخ الشرق الأوسط على خلفية الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لم أكن أعلم أن تصريحه حول حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم في مواجهة الاحتلال، سيكون له هذا الصدى السريع لدى مختلف الأوساط في الدولة العبرية، لا أشير هنا إلى ردود الفعل الرسمية والسياسية التي هاجمت كي مون وفندت تصريحه، بل أقصد الآثار المترتبة على محاولة بعض الساسة القيام بعملية "مراجعة" لسياسة إسرائيل، فقد لاحظت أن عدداً من كتاب الرأي في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وفي الغالب انطلاقاً من تصريحات بان كي مون المشار إليها، أخذوا يتحدثون بلغة مختلفة، ربما ليست جديدة تماماً، ولكن ربط هذه الأحاديث بتصريحات بان كي مون، أدى إلى أن تشكل هذه المراجعة نسقاً جمع حوله عدداً اكبر من المراجعين في وقت واحد تقريباً، الأمر الذي يشير إلى أن تصريحات بان كي مون كان لها التأثير المباشر على قيام هؤلاء بمثل هذه المراجعة، وليس الأمر هنا مجرد فكرة حركت كاتباً ما للقيام بمثل هذه المراجعة تحديداً.

بدأت عملية المراجعة هذه، من خلال مناقشة فكرة ربما تطرح للمرة الأولى بهذا الزخم، هذا النقاش جرى على خلفية الانتخابات الأخيرة للكنيست الإسرائيلي، والتي أدت نتائجها إلى فوز نتنياهو بحكومته الرابعة، فهذه الانتخابات، رغم ذلك، لم تشكل مجرد تطور سياسي، أو انقلاب على المفاهيم السياسية السائدة، بقدر ما كانت إنجازاً أيديولوجياً في الجوهر والصميم، إذ عبر نتائج هذه الانتخابات ونتائجها، بات اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفاً، ليس مجرد حاكم للدولة العبرية من خلال حكومة نتنياهو، بل ان الجوهر الفكري الأيديولوجي، وتداعياته المجتمعية كان لها الغلبة في التأثير على الرأي العام من ناحية، وإعادة رسم البيئة "الدستورية" والقانونية على قاعدة هذه الأيديولوجيا المنسجمة تماماً مع الأفكار الأكثر تطرفاً في العقيدة اليهودية التوراتية، والأخطر في هذا السياق، فيما يتعلق بالدولة العبرية، مصادرة القيم الديمقراطية الإسرائيلية لصالح الهُويّة التوراتية، البيئة الدستورية والقانونية، ثم إعادة تشريعها انطلاقاً من"رؤيا بينيت" ومجلس يشع، كما يقول أوري سافير في "معاريف"، هذه الرؤيا لم تعد حلماً أو رغبة، بل مكنت الأفكار من التحول إلى متغير حقيقي للواقع، انطلاقاً من "ارض إسرائيل الكاملة" والكراهية للعرب، واعتبار عدم المساواة معهم، مسألة أخلاقية توراتية، وليست مجرد أداة سياسية للاقتلاع، الاستيطان هنا، لا يتعلق بالرغبات السياسية، بل انطلاقاً من القيم الدينية التوراتية، والفرق واضح، فالاستيطان ليس مجالاً للصفقات السياسية، بل حكم شرعي رباني وفقاً للأحكام التوراتية، وبالتالي، فإن من لا يؤمن بأرض إسرائيل الكاملة، وأداة تحقيقها عبر الاستيطان والضم والإلحاق والتهويد، يعتبر "كافراً" وليس مجرد أنه ارتكب جريمة سياسية!! يقول الكاتب دفاعاً عن فكرته، إن التاريخ الحديث لم يصمد أمام أي احتلال لشعب آخر، لقد قضى الاستعمار نحبه، ومصير فلسطين المستقلة سيكون مشابهاً لمصير الجزائر وفيتنام وإرادة الشعوب تفوق في نهاية الأمر كل قوة عسكرية، وعلى الجانب الآخر ـ الإسرائيلي ـ ستنهزم رؤيا نتنياهو، بينيت، ريغف!!

كاتب آخر، يكتب في "هآرتس"، ايريس ليغال، أن الدولة العبرية تسير باتجاه الفاشية، إلاّ أنه لا يستند إلى تصريحات بان كي مون تحديداً، بل ربما استلهاماً بها، وعلى خلفية القوانين الإسرائيلية الأخيرة، وبعض الإجراءات التي طالت شخصيات اعتبارية يسارية، على المستويين السياسي والثقافي، لكنه استند إلى أقوال أحد عتاة اليمين، عضو الكنيست بني بيغن بقوله: "إننا أمام ذروة جديدة من الفظاعة الفاشية" مطالباً بالتحقيق كيف وصلت الأمور بالدولة العبرية إلى هذا المستوى من الفاشية، مع التأكيد هنا، أن هذا التوصيف من قبل بيغن، لا يتعلق بالتحديد بالملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بل يتعلق أساساً بالأوضاع الداخلية الإسرائيلية، إلاّ أن دولة فاشية، لا يمكن لها أن تبرئ نفسها من سياساتها تجاه الآخرين، خاصة عندما تقوم باحتلال أرض وشعب آخر.

ما تجاهلته هذه المراجعة، تهاوي قوى اليسار الإسرائيلي حتى قبل وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، ولولا ذلك لما تمكن هذا اليمين الفاشي من فرض إرادته وبرامجه على الحياة السياسية والاجتماعية في إسرائيل، أكثر من ذلك، فإن تصريحات هرتسوغ زعيم المعارضة رئيس حزب العمل حول عدم إمكانية تحقيق حل الدولتين، لا تعبر فقط عن ضعف ما يسمى باليسار في إسرائيل، بقدر ما تشير إلى تهافت هذا اليسار كي يقع في حضن اليمين، والمشاركة في حكومة يقودها عتاة اليمين الديني المتطرف.

الزحف المتواصل بلا هوادة إلى مزيد من العنصرية والفاشية الإسرائيلية، يأتي في ظل استثمار الانقلابات الاجتماعية والسياسية في المنطقة والتي تطغى عليها المسائل المتعلقة بالإرهاب وقضايا اللاجئين، زحف بزخم كبير، لكنه يبدو أكثر هدوءاً وأقل ضجيجاً، مع أنه سيكون مركز الانقلاب الحقيقي في منطقتنا العربية، على الأقل!!