إنهاء الانقسام مجدّداً على الطاولة

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 

لم تكن زيارة رئيس الحكومة د. محمد إشتية إلى القاهرة زيارة عادية، أو عابرة، فقد كانت زيارة عمل مهمّة للغاية، وقد جاءت في سياق الهدف الإستراتيجي الذي حملته هذه الحكومة على كاهلها منذ أن تم تشكيلها قبل أربعة أعوام، ونقصد بذلك الفكاك الاقتصادي من قبضة الاحتلال، التي تزايد ضغطها منذ تشكيل هذه الحكومة بالذات، وذلك لاعتبارات عديدة، لسنا في وارد تعدادها في هذا المقال، ودليلنا في ذلك هو أولاً عدد مرافقي رئيس الحكومة من الوزراء الذين وقّعوا مع نظرائهم المصريين العديد من الاتفاقيات التي تعزز من مكانة الاقتصاد الفلسطيني، وتحرره إلى حد ما من واقع الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي، خاصة في حقل الطاقة الكهربائية، والصحة، والزراعة والتعليم، كما تم توقيع بروتوكول المشاورات السياسية بين وزارتَي الخارجية وبين وزارتَي الزراعة.
وقد جرت المحادثات بين الجانبين في مقر رئاسة الوزراء المصرية بالعاصمة الإدارية الجديدة، وقد كان ذلك أول استضافة مصرية لممثلي دولة أخرى في المقر الجديد للحكومة المصرية، وهذا ما اعتبره الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء المصري حدثاً تاريخياً، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل تسرب حديث عن طرح ملف إنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني خلال لقاء رئيسَي الحكومتين، حيث ما زالت مصر الراعي الرسمي والحقيقي لذلك الملف، وما زالت مصر تتمتع بثقة كل الأطراف الفلسطينية، وهذه الثقة لا تتمتع بها أي دولة أخرى، ومصر في الوقت الذي تشكل فيه درعاً حامياً للموقف السياسي الرسمي للسلطة، هي الدولة التي تهبّ لإطفاء نار المواجهة حين تقع على حدود غزة، وهي الدولة الرئيسة التي ما زالت تتوسط في اتفاقيات التهدئة وحتى في ملف تبادل الأسرى، وليست هناك بالطبع دولة أخرى لها كل هذا التأثير في أهم الملفات الفلسطينية الداخلية والخارجية.
ولقد أثار لقاء إشتية مع وزير المخابرات المصري عباس كامل مجدداً السؤال حول ملف إنهاء الانقسام، وإن كان قد وضع على الطاولة، أو تم تداوله، بعد أن هدأ آخر حديث حول الأمر، أثير قبل عام، في الجزائر عشية عقد مؤتمر القمة العربية في عاصمة بلد المليون ونصف المليون شهيد، حيث حاولت الجزائر أن تلمّ شمل العرب، في ملفين، أحدهما ملف الانقسام الداخلي الفلسطيني، والثاني ملف عودة سورية إلى القمة، هذا الملف الذي آثر العرب تقديمه إلى السعودية، في القمة العربية التي عقدت الشهر الماضي، بعد نحو ستة شهور من قمة الجزائر، فيما بقي ملف إنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني كما هو.
والحقيقة، أنه إضافة إلى العوامل الكثيرة التي تدعو مصر لإغلاق ذلك الملف على نهايته السعيدة، هناك عوامل إضافية، ظهرت خلال الفترة الأخيرة، فبعد أن تأكد إغلاق ملف التفاوض بين السلطة وإسرائيل منذ أعوام، بل وتبع ذلك توقف التنسيق الأمني ميدانياً، كذلك بقي حصار غزة دون أن ينجح رهان «حماس» على «كسره» بقوة الحلفاء الإسلاميين الإقليميين، ظهر شعار «وحدة الساحات» كشعار داعم لإنهاء الانقسام على المستوي الرسمي/الفصائلي، وهكذا كان دائماً الشعب الفلسطيني ميدانياً يتقدم على نخبته السياسية، والمهم أنه مع الانقسام كل شيء معطل، فلا أفق لإنهاء الاحتلال عن القدس والضفة الفلسطينية، ولا أفق لكسر الحصار عن غزة، كذلك تزايد الضغط الاقتصادي الإسرائيلي على السلطة، منذ عام ونصف العام بمضاعفة حجم السطو على ضريبة المقاصة الشهرية، وكل هذا جعل من الفلسطينيين بكل فصائلهم، في القدس والضفة وغزة، في موقع تلقي الضربات السياسية والميدانية الإسرائيلية، ومع الصمود الفلسطيني الأسطوري، يبقى الحال في أحسن أحواله على حاله!
لكن هناك متغيرات دولية، وإقليمية، وحيث أن كل شعارات إسرائيل السابقة التي كانت تقترح الحل الاقتصادي، أي تقديم المساعدات المالية للجانب الفلسطيني مقابل التنازل السياسي، قد فشلت، فإن الضغط الاقتصادي الإسرائيلي يهدف إلى إجبار الجانب الفلسطيني على الرضوخ، وربما هو محاولة إسرائيلية جدية لدفع السلطة إلى حافة الانهيار، ما دامت هذه السلطة تصر على أن تبقى مشروع الدولة المستقلة، وترفض البقاء كسلطة حكم ذاتي.
أي أن هناك معركة إرادات اقتصادية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ليس فقط في غزة، ولكن أيضاً في الضفة الغربية، حيث تضاءلت المساعدات المالية الخارجية، لدرجة التلاشي، بما في ذلك الدعم العربي، فلم تتلقَ السلطة ولا قرشاً واحداً منذ بداية العام الحالي، من أحد، وفي حقيقة الأمر، فإن الدعم المالي الخارجي، الأوروبي خاصة، كان بهدف أن يساعد ذلك في التوصل للحل السياسي، وليس من أجل عيون الفلسطينيين، وفي جانب مهم منه بهدف «ترويض» الفلسطينيين، لقبول الحل الذي تريده إسرائيل، التي تراجعت كثيراً عمّا كانت تقدمه من قبل، دون أن يعني ذلك شيئاً لا لأميركا ولا لأوروبا، وحتى نكون منصفين، نقول: إن الاقتصاد الأوروبي قد أنهك خلال أعوام 2019 - 2021 جراء جائحة «كورونا»، ثم منذ شباط العام 2022 وحتى الآن بالحرب الروسية الأوكرانية، فيما العرب، الخليجيون خاصة، ليسوا مهتمين بدعم الحالة الفلسطينية كحالة مقاومة ضد الاحتلال، وهم انشغلوا أكثر بملفات اليمن وقبلها سورية وليبيا، وحالياً السودان، لذا لا يبدون الاهتمام الكافي لا بحالة الانقسام، ولا بمواجهة الاحتلال، وقد اكتفوا ببيع فلسطين الكلام الإنشائي في قمة جدة الشهر الماضي.
وما يدعو إلى التقاط أو الاهتمام ببارقة الأمل التي تلوح في أفق ملف الانقسام، هو أن الفكاك الاقتصادي من الاحتلال يمكنه أن يحصل على جرعة دعم هائلة في غزة، وذلك لكون غزة فارغة من الاحتلال، وصورة الاحتلال الرئيسة متمثلة في الحصار الخارجي: البحري والبري من الجهات الثلاث: الشرق والشمال والغرب، فيما يمكن أن يجري فتح بوابة الجنوب في كل المجالات، وذلك في حالة إنهاء الانقسام وتولي السلطة الرسمية مسؤولية معبر رفح، ويمكنها حتى أن تفتح حرباً على الحصار، بمجرد فرد عباءتها على القطاع.
وبالنسبة لطرفَي الانقسام، يكفيهما غاز غزة الحاجة المالية للآخرين، فالتقديرات تشير إلى أن حقل «مارين» الذي يبعد 36 كيلومتراً عن شاطئ غزة، يحتوي على 32 مليار متر مكعب، بما يعادل طاقة إنتاجية 1.5 مليار متر مكعب سنوياً لمدة 20 سنة، حيث يمكن القول: إن ذلك الحقل سيكفي لفلسطين حاجتها من الغاز، كما سيوفر قدراً آخر للتصدير، بحيث يمكن اعتبار ذلك الحقل مع محطة جنين التي هي على وشك البدء بإنتاج الكهرباء التي تسد نحو 50% من حاجة فلسطين للكهرباء، والتي صممت لتعمل وفق دورتين مجتمعتين للغاز والبخار، بحيث يتم تزويد المحطة من غاز مارين الغزي، يمكن اعتبارهما مفتاح الاستقلال الاقتصادي.
ولأن السياسة مصالح، فإن إسرائيل التي تواجه ضغطاً أميركياً متزايداً بسبب عدم انخراطها في الحرب الأميركية على روسيا في الملف الأوكراني، لذا هي تسعى إلى ضرب العصفورين بحجر واحد، من خلال النجاح في تزويد أوروبا بالغاز الكافي ليكون بديلاً عن الغاز الروسي، وهي قد حاولت أن تعرض مجدداً على مصر إدارة غزة، ليس أمنياً فقط بالطبع، وهكذا بات استخراج غاز غزة هدفاً ومصلحة لأكثر من طرف وعلى أكثر من جانب، واستخراج ذلك الغاز بالطبع مدخله وجود جانب فلسطيني رسمي، وكما حدث مع لبنان، حيث كان «حزب الله» في الكواليس، إلا أن الدولة اللبنانية هي من جلست على الطرف الآخر للطاولة، يمكن أن يحدث في فلسطين، وما يبرر كل هذه التخمينات دعوة مصر لكل من إسماعيل هنية وزياد النخالة لزيارة القاهرة، بمجرد مغادرة إشتية لها، فهل نسمع بعد أيام أو أسابيع خبراً ساراً؟ هذا يمكن أن يكون مرجحاً في حال تواصل وصول الوفود الفلسطينية إلى القاهرة تباعاً في الأيام القادمة.