السُّودان في طريقه إلى «الصَّومَلة»!

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 


إذا لم يتمّ إنهاء القتال في السودان في غضون الأيام القليلة القادمة، فإنّ هذا البلد العربي يسير نحو حالة الفوضى الشاملة، ونحو التمزّق والتشظّي وفقد السيطرة.
ولن يقتصر الأمر على القتال في العاصمة أو ما حولها، أو في إقليم دارفور فقط، وإنّما سيمتدّ القتال إلى باقي الولايات والأقاليم والنواحي، بما فيها النائية والبعيدة عن العاصمة، وذلك لأن القتال أخذ بالتوسُّع «القبلي» في الأسابيع القليلة الماضية، وتحوّل هذا «التوسُّع» إلى ما يُشبه بتشكيل جديد من مراكز القرار والنفوذ ستتمحور كلها حول المركزين الرئيسين في العاصمة السودانية، دون أن يكون لهذين المركزين سيطرة فعلية على التشكيلات الجديدة.
إذا صحّت هذه التقديرات ــ وأغلب الظنّ أنها صحيحة ــ فإنّ وصفة الحرب الأهلية «العمياء» تكون جاهزة، ويكون السودان قد تحوّل بالفعل إلى حالة من «الصَّومَلة» الكاملة.
فشلت حتى الآن كل المحاولات في إيجاد أيّ حد من التفاهم بين الطرفين المتصارعين، ولم تسجّل التدخلات القوية أي نجاح من الاتحاد الإفريقي، والجامعة العربية، ومن قبل العربية السعودية، ولا حتى من قبل ضغوط سعودية أميركية مشتركة، تماماً كما كانت قد فشلت الجهود المصرية مبكراً، ولم يعد هناك من جهاتٍ إقليمية أو دولية قادرة على وقف التدهور، وباتت «الهدنة» لساعات، أو ليومٍ واحد، ولأسباب إنسانية محدّدة ومباشرة مسألة صعبة، وأصبح الأمل بإيجاد مخرج من هذا النفق الذي يدخله السودان ضعيفاً إلى درجة اليأس والإحباط.
أهمّ المؤشّرات على تفاقم الأزمة السودانية، ووصولها إلى هذا المنحدر الخطير على وحدة وبقاء النظام، إذا لم نقل على وحدة وبقاء البلد هو تراجع القوى السياسية السودانية عن مبادراتها، وتنحيها عن القيام بدورها في «التصدّي» لهذا الاقتتال المدمّر، وعجزها حتى الآن عن التحشيد الشعبي ضدّ استمراره وامتداده المخيف أفقياً، وتعمّق محتواه القبلي عمودياً.
وتجد القوى السياسية السودانية نفسها في وضع لا تُحسد عليه، فهي من جهةٍ ليست طرفاً في هذا الصراع، وليس لها أيّ مصلحة في استمراره، وهي من جهةٍ أخرى لا تمتلك الوسائل ولا الأدوات للتأثير عليه، أو الانحياز لأحد أطرافه، لأنّ المسألة الديمقراطية ليست في حسابات وأولويات أيّ طرفٍ من الأطراف المتناحرة، ولأن هذا التناحر هو صراع على السلطة والنفوذ، ولم تعد مسألة التحول الديمقراطي جزءاً من التوجهات الفعلية للجيش أو لقوات الدعم السريع، بل يمكن القول إن هذا التحوّل بالذات هو الضحية الأولى لهذا الصراع وأيّاً كانت النتائج التي سيُفضي إليها.
المؤشّر الآخر على دخول السودان إلى مشارف المرحلة أو «الحالة الصومالية» هو انتقال المحاولات «الدولية» من مرحلة الضغوط السياسية إلى فرض العقوبات، أو التهديد المباشر والعلني بها، في انتقال لافت، وفي تأكيد مباشر على أن هذه الأزمة قد تودي بكلّ المصالح «الغربية» في السودان في حال أن تطوّرت الأوضاع ووصلت إلى «الحالة الصومالية».
معروف أنّ الولايات المتحدة، و»الغرب»، وكذلك إسرائيل يركّزون اهتمامهم قبل أيّ اهتمام آخر على الثروات السودانية، إن كان لجهة المساحات الزراعية الشاسعة التي تمتلكها الولايات المتحدة على هيئة شركاتها العاملة فيه، أو كان على مستوى المعادن الثمينة التي يعتبرها «الغرب» من أهمّ وأنقى المعادن الإستراتيجية للصناعات عالية التطور والحساسية.
وكون أن «الغرب» بدأ يشعر بفقد السيطرة هناك، فهذا يعني أنّ هناك احتمالات بفقد القدرة على التحكّم والسيطرة على هذه الثروات، وهو ما يعني أنّ الوضع قد بات خطيراً على هذه المصالح بصورةٍ جادّة، وبما يهدّد فعلياً هذه المصالح.
مؤشّر آخر على تفاقم الأزمة السودانية وتحوّلاتها الخطيرة هو الموقف الأثيوبي.
عرض الوساطة الأثيوبية، واستعداد رأس الهرم السياسي في أثيوبيا للتوجه إلى الخرطوم، وعرض اقتراحاته لإنهاء الأزمة هو مؤشّر ربما يكون من أكثر المؤشّرات والدلالات على مدى تعمّق الأزمة السودانية، وعلى ما يمكن أن تصل إليه.
صحيح أن هذه الوساطة هي أحد مظاهر «الكوميديا السوداء»، وأن شرّ البلية ما يُضحك، لكن الصحيح، أيضاً، أن أثيوبيا التي تعرض وساطتها بعد كل المحاولات الفاشلة لوضع حدّ لهذا الاقتتال العبثي، إنّما تقوم بذلك بسبب خوفها من أن تؤدّي «حالة الصَّومَلة» للصراع السوداني إلى إعادة زعزعة الوضع الأثيوبي نفسه، خصوصاً أن الوضع الداخلي فيها ما زال هشّاً للغاية، ولم يتمّ بعد التأكيد أو التأكّد من استقرار أو تكريس الاتفاق الذي عقدته الحكومة الأثيوبية مع الجبهة الشعبية لتحرير «تيغراي».
بل إنّ في عرض الوساطة الأثيوبية ما يشي بأنّ امتداد الأزمة السودانية إلى المناطق القبلية، وخصوصاً إلى المناطق النائية والحدودية من شأنه أن يهدّد الاستقرار مع السودان نفسه، خصوصاً أن هناك الكثير الكثير من «التداخلات» ما بين القبائل في تلك المناطق، وأن هناك إمكانيات مفتوحة على احتمالات خطيرة على هذا الصعيد.
ليس هذا فقط، وإنّما تخشى أثيوبيا أن يؤدي تفاقم الأزمة السودانية إلى إعادة إثارة مسألة السدّ الأثيوبي (النهضة) ليس من زاوية الحصص المائية فقط، وإنّما من زاوية احتمالات استخدام مسألة الموقف من (السدّ) في الصراع المباشر بين طرفيّ النزاع، أو بين الأطراف التي «ستتوالد» في سياق احتدام هذا النزاع على السلطة في السودان.
وأظنّ أن دخول أثيوبيا على خطّ الوساطة هو مؤشّر خطير على أنّ مصر قد خرجت فعليّاً من دائرة التأثير على تطوّر الأوضاع في السودان، أو أنه تم «إخراجها» بصورة قصدية من دائرة التأثير، ولا يُستبعد في هذه الحالة أن تكون الولايات المتحدة وإسرائيل قد أدخلتا أثيوبيا على خطّ الوساطة.
قد تكون أثيوبيا مدفوعة بمصالحها الخاصة، وبسبب مخاوفها الخاصة، وقد يكون لديها المعلومات الكافية حول مجريات ومآلات هذا الصراع. لكن إسرائيل ليست على هامش هذا الصراع، وهي معنية بإعادة توجيهه نحو مصالحها الخاصة في السودان، ونحو مصالح الولايات المتحدة هناك.
الأزمة في السودان تعكس أزمة الحالة العربية، فقد فشلت الحالة العربية في حلّ الأزمة تماماً كما فشلت في حلّ الأزمة في ليبيا، وقبلها في حلّ الأزمة السورية، ولم تتم «فكفكة» أيّ نزاع في كامل منطقة الإقليم بجهود عربية مشتركة، وما يجري من محاولات لحلول معينة لكل أزمات الإقليم العربي إنّما يتمّ أساساً بجهودٍ دولية وإقليمية وليست عربية، ولولا أنّ هناك بعض التأثير للعربية السعودية لكنّا أمام غياب كامل للعرب في حل الأزمات العربية.
وإذا كان من دلالةٍ هنا فهي أن العرب ما زالوا بعيدين كلّ البعد عن التحوّل إلى قوة إقليمية قادرة على فرض الحلول الخاصة، النابعة من مصلحة الإقليم العربي.
وإذا كان من دلالة إضافية هنا فهي أنّ وجه هذا الإقليم لن يتغيّر قبل أن يتحوّل العرب إلى قوّة إقليمية متماسكة.