الحكومة الإسرائيلية تزعزع «الوضع الراهن» في الضفة: تداعيات خطيرة (1)

حجم الخط

بقلم: تامير هايمن وعيدن كدوري



قيادة المنطقة الوسطى هي القيادة المسؤولة عن كل الوحدات والألوية المتمركزة في منطقة "يهودا" و"السامرة". تشكل هذه القيادة الجهة ذات السيادة الفعلية، وتدير المعركة بكاملها؛ بكونها الجهة التي توجه الجهات الأخرى العاملة في الساحة: منسق النشاطات في "المناطق"، والإدارة المدنية، وحرس الحدود في "يهودا" و"السامرة". نظراً لأن إسرائيل لم تعلن منذ 1967 عن سيادتها في مناطق "يهودا" و"السامرة" فإنه يُنظر من ناحية القانون الدولي إلى وضع إسرائيل يدها على "المناطق" التي احتلتها في حرب "الأيام الستة" على أنه "وضع يد حربي". في هذا الإطار، المنطقة موجودة تحت احتلال عسكري بإدارة قيادة المنطقة الوسطى. شُكلت الإدارة المدنية في 1981 في أعقاب اتفاق السلام مع مصر، من اجل أن تخرج من ايدي الجيش الإسرائيلي معالجة الشؤون المدنية في "المناطق" المحتلة.
اتفاقات أوسلو أو باسمها الرسمي "اتفاق المبادئ"، هي سلسلة اتفاقات وقعت من قبل إسرائيل و"م.ت.ف" ما بين السنوات 1993 إلى 1995 بهدف إنهاء النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين بمصالحة سياسية وجغرافية. على أساس "إعلان المبادئ بشأن الاتفاقات المؤقتة لحكم ذاتي"، الاتفاق الأول من بين اتفاقات أوسلو، شُكلت السلطة الفلسطينية ونُقلت إليها صلاحيات في مجالات مدنية في مناطق "يهودا" و"السامرة" وقطاع غزة وكذلك صلاحيات أمنية. هكذا، أصبحت السلطة بنية تحتية تنظيمية لإدارة الكيان الفلسطيني (نوع من "دولة على الطريق")، والتي لديها وزارات حكومية وصلاحات عملية. قسّمت الاتفاقات مناطق السلطة إلى 16 محافظة منها 11 في "يهودا" و"السامرة". خلال ذلك قسمت مناطق "يهودا" و"السامرة" وقطاع غزة إلى ثلاث فئات، منطقة "أ" والتي تشكل 18% من "يهودا" و"السامرة"، تحت سيطرة مدنية وأمنية للسلطة الفلسطينية، ومنطقة "ب" والتي تشكل 22% من "يهودا" و"السامرة"، كمناطق تحت سيطرة مدنية للسلطة الفلسطينية وتحت سيطرة أمنية لإسرائيل، ومنطقة "ج" والتي تشكل 60% من "يهودا" و"السامرة" تحت سيطرة مدنية وأمنية إسرائيلية، وهي التي تضم المستوطنات اليهودية في المنطقة.
في الأصل، نصّت اتفاقات أوسلو على إقامة 6 أجهزة أمنية للسلطة الفلسطينية، ولكن سرعات ما تطور 10-15 جهاز أمن منفصلاً. واقتضت هذه إقامة جهاز تنسيق امني بين الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن هذه، بدأ بالعمل رسميا في سنة 1996. خلال السنين أثمر التنسيق الأمني عن إنجازات عديدة، ويشكل وجوده مصلحة مهمة لكلا الطرفين، وبمساعدته يحافظون على الهدوء الأمني في "يهودا" و"السامرة". يتم معظم التنسيق على يد الإدارة المدنية، وهو يشمل بالأساس تنسيقا على المستوى الميداني بين أجهزة المخابرات وتنسيقا بين أجهزة "الشاباك" المتوازية وبين أجهزة الرقابة المدنية، من خلال تعاون مع قائد المنطقة الوسطى الذي ينسق زمنيا هذه التنسيقات في مقر القيادة.
أخذت الإدارة المدنية على عاتقها بعد اتفاقات أوسلو المسؤولية عن المصادقة على مخططات بناء في المستوطنات وفي البلدات الفلسطينية الواقعة في مناطق "ج"، وهكذا فهي مسؤولة من بين أمور أخرى عن العثور على بناء غير قانوني وتنفيذ القانون ضد البؤر الاستيطانية غير القانونية، وكذلك أيضا عن إصدار تصاريح عمل للفلسطينيين، وكذلك العلاقة مع السلطة الفلسطينية في المواضيع المرتبطة بالتنسيق الأمني وإنشاء البنى التحتية. يتولى المسؤولية عن الإدارة المدنية ضابط من الجيش الإسرائيلي بدرجة عميد ويكون خاضعا لقائد المنطقة الوسطى وموجها مهنيا من قبل منسق أعمال الحكومة في "المناطق". فعلياً، يخضع رئيس الإدارة المدنية لمنسق نشاطات الحكومة، ويعمل ضابط ركن لقائد المنطقة المسؤول عن تنسيق وإدارة الجهود المدنية للقيادة. أي عن كل جوانب سيطرة قائد المنطقة على السكان المدنيين، علاوة على ذلك يعمل في "يهودا" و"السامرة" "الشاباك" وحرس الحدود.
سياسة حكومة إسرائيل الـ 37، مثلما تنعكس في الاتفاقات الائتلافية التي وقعت وفي تطبيقها حتى الآن، تنعكس في عدد من الخطوات التي ستؤثر بصورة دراماتيكية على سلوك قيادة المنطقة الوسطى، وفي أساسها: نقل الصلاحيات عن الإدارة المدنية للوزير في وزارة الدفاع (بتسلئيل سموتريتش) وإخضاع حرس الحدود لوزارة الأمن الوطني، وتوسيع مشروع الاستيطان اليهودي بوساطة "شرعنة الاستيطان الشاب"، أي اعترافا قانونيا بالبؤر غير القانونية. وكل هذا، على خلفية اقتراح "الإصلاح القانوني"، والذي لو تم تمريره كما هو فإنه سيعطي لحكومة إسرائيل قوة لتطبيق هذه السياسة عن طريق سن تشريعات ولوائح، لن يكون بالإمكان الاعتراض عليها أو فسخها. يدور الحديث عن خطوات من شأنها أن تغير جذريا الواقع في "يهودا" و"السامرة" مثلما تشكل خلال السنوات الأخيرة.
في نهاية 56 عاماً من السيطرة العسكرية الإسرائيلية على "يهودا" و"السامرة"، وإزاء الخطوات التي تنفذها الحكومة الـ37 وتنوي تنفيذها، مطلوب أن نفحص مغزاها مثلما سيتم التعبير عنها على الأرض. في هذا المقال، سيتم تحليل العناصر المختلفة التي مكنت قيادة المنطقة الوسطى من المحافظة على الاستقرار النسبي على مر السنين، والتي من جانبها سهلت على إسرائيل تطوير مشروع المستوطنات المزدهر وكذلك مواجهة انتفاضتين فلسطينيتين "الانتفاضة الأولى والثانية". بالإضافة إلى ذلك سيتناول المقال الظروف التاريخية والخطوات التي شكلت المنظومة القائمة في قيادة المنطقة الوسطى، وكذلك الأركان التي تمكن من تأسيس هذه المنظومة. قضايا أخرى هي تأثير خطوات الحكومة الحالية على مستقبل هذه المنظومة، وعلى قدرة قيادة المنطقة الوسطى على تنفيذ دورها.

إدارة معركة دون هدف سياسي
عرّف فيبر وبيرسيكتور السيادة بأنها "حق معترف به لكيان سياسي لتطبيق صلاحيات على كل القضايا". إدارة المنطقة الوسطى بمفاهيم عديدة هي صاحب السيادة في "يهودا" و"السامرة". خلافا لباقي قيادات الجيش الإسرائيلي فإن لقيادة المنطقة الوسطى صلاحيات ومسؤوليات شاملة في "يهودا" و"السامرة"، حيث توجد لها القدرة على استخدام القوة وأيضا جوانب من بناء القوة وتشكيل السياسات. طالما يدور الحديث عن "يهودا" و"السامرة"، فبالطبع إلى جانب السلطة الفلسطينية المسيطرة على الفلسطينيين في مناطق "أ" و"ب". توجد لقيادة المنطقة الوسطى صلاحيات تشريع، وقضاء، وذراع تنفيذية، تشكل نوعا من العالم المصغر لسلطات الدولة الثلاث، وتمكن سيادتها وتنفيذ خطوات إستراتيجية واسعة لا تحدث في قيادات أُخرى. هكذا وخلافاً عن باقي القيادات، والتي تشكل بالأساس عاملا تنفيذيا، فإن قيادة المنطقة الوسطى هي صاحبة السيادة في منطقتها، وهي المسؤولة عن بلورة الأهداف التكتيكية والاستراتيجية على الأرض.
في حزيران 1967 ومع انتهاء حرب "الأيام الستة" تعين على دولة إسرائيل مواجهة واقع جديد، في إطاره وجدت نفسها تسيطر على اربع ساحات مختلفة من بينها "يهودا" و"السامرة"، والتي كان فيها حينئذ 700 ألف فلسطيني. منذ بداية هذه السيطرة العسكرية كان التأكيد على إدارة المنطقة وليس على بلورة اتفاق سياسي طويل المدى. كان موشيه ديان، وزير الدفاع في الفترة التي أعقبت حرب "الأيام الستة"، يتوق إلى وجود سلطة احتلال "غير مرئية" قدر الإمكان، والسماح بحياة طبيعية بقدر الإمكان للسكان الفلسطينيين مع اتباع سياسة معاقبة موزونة ومتطورة. هذه السياسة تم اتباعها من قبل وزراء الدفاع طوال السنين في محاولة لإقامة "حكم مستمر" وتطبيق فلسفة عدم التدخل في الحياة الروتينية للسكان المحليين التي اتبعها ديان، قدر الإمكان في إطار السيطرة الأمنية.
اعتبرت قيادة المنطقة الوسطى دورها جهة مسؤولة عن "إخماد الحريق"، وكبح جهات محرضة مع تجنب خلق نقاط احتكاك ستوقد المقاومة تجاه إسرائيل في المجتمع الدولي. هكذا فإن القيادة طورت رؤية تنظيمية عن الساحة نابعة من سياسة المستوى السياسي، والتي تضمنت عددا من الجوانب الأساسية: توازنات أمام نشاطات الفلسطينيين وتقليص ارتفاع ألسنة اللهب في حالات ونقاط احتكاك بهدف منع إشعاع "الإرهاب"، وتوازنات ما بين توسع المشروع الاستيطاني اليهودي وبين مناطق تحت ملكية فلسطينية وكذلك فصل السلطة الفلسطينية عن قطاع غزة في عهد ما بعد اتفاقات أوسلو.
الموقف الرسمي لحكومة إسرائيل، والذي كما يبدو لم يتغير منذ 1967 وحتى اليوم، يقول، إن إسرائيل تضع يدها على المنطقة التي احتلتها حيث جزء منها هو ورقة مساومة للتوصل إلى اتفاق سياسي لحل النزاع العربي - الإسرائيلي. على خلفية هذا الموقف، والذي معناه التطلع إلى المحافظة على إمكانيات العمل المستقبلية، والتعامل مع الساحة الفلسطينية على مر السنين على أنها في أقصى الهامش حسب تفضيل المستوى السياسي، وبدون نجاح (أو محاولة حقيقية) لبلورة حلول للنزاع. انشغل المستوى السياسي الأمني في بلورة ردود للساحات التي اعتبرت تهديدا وجوديا لدولة إسرائيل - سورية، "حزب الله"، ولاحقا ايران. هكذا فإن القضية الفلسطينية بقيت تحت معالجة القادة الميدانيين بقيادة المنطقة الوسطى، بدون هدف سياسي بعيد المدى. في إطار استراتيجية الحكم المستنير، تركزت الرسالة التي نقلت لقادة القيادة طوال السنين على منع التصعيد وعلى "ضعوا بطانية على النار واهتموا بأن تظل منخفضة".
غياب سياسة واضحة للمستوى السياسي طوال السنين اقتضى من القيادة أن تفهم وتفسر نواياه بوساطة رسائل وتصريحات متخذي القرارات وليس عن طريق أوامر واضحة، على خلفية رسائل متناقضة في مرات عديدة على رأسها التناقض ما بين توسيع مشروع المستوطنات وبين المحافظة على فضاء الاحتمالات لحلول سياسية. داخل هذا الفضاء، كانت القيادة تتوق لاستمرار "الوضع القائم" في "يهودا" و"السامرة" على طول السنين، والذي جوهره المحافظة على الاستقرار الأمني في المنطقة ومحاولة "شراء وقت" إلى أن تتبلور الظروف التي ستقود إلى حل سياسي بعيد المدى عبر المحافظة على فضاء الاحتمالات للمستوى السياسي تجاه الساحة الفلسطينية.
رؤية استخدام القوة لدى قيادة المنطقة الوسطى
سجلت قيادة المنطقة الوسطى لصالحها نجاحا لا بأس به في السيطرة على "يهودا" و"السامرة" طوال حوالي 56 عاماً، حوالي نصف هذا الوقت بمشاركة السلطة الفلسطينية وبالتنسيق معها ـ أي أنها نجحت بدرجة كبيرة في جعل المنطقة مستقرة وكبح انتفاضات فلسطينية وكبح "الإرهاب".
العمليات الكبيرة، التي وقعت في بداية سنوات الـ 2000 (الانتفاضة الثانية) في عهد رئيس الحكومة الإسرائيلية، أرئيل شارون، والذي كان معروفا بمقاربته العدائية تجاه الساحة الفلسطينية، قادت إلى تعاظم توجه الكبح الذاتي لدى إسرائيل. بعد العملية التي وقع فيها العديد من المصابين في الدولفيناريوم (2001) قال أرئيل شارون: "أيضا ضبط النفس هو عامل قوة"، وهي جملة حفرت في الوعي الوطني وأشارت إلى بداية التغيير. شيئا فشيئا تبلور في إسرائيل فهم بأن القوة ليست الوسيلة الوحيدة في محاربة "الإرهاب". في أساس هذه الرؤية كان التفكير بأن القوي فقط قادر على احتمال ضربات والرد عندما يجد ذلك مناسبا. أي رد فوري وسريع هو تعبير عن ضغط وشعور إلزامي بالرد، حتى وان كان ذلك ليس صحيحا. بناءً على ذلك، استخدام القوة وعدم استخدامها هي خطوات استكمالية في خلق وعي القوة لإسرائيل في حربها ضد "الإرهاب". هذا الفهم ينعكس أيضا في التصريح الدارج: "إسرائيل سترد في المكان وبالقوة التي تراها مناسبة".
لقد اثر على هذه المقاربة تطور رؤية الفن التنظيمي - وهي فلسفة شاملة لفكرة الحرب القائمة على مكونات نظرية المنظومات لتفكير استراتيجي عسكري. في بداية سنوات الـ 2000 كانت قيادة المنطقة الوسطى هي الرائدة الفكرية لهذه النظرية. قام الجنرال احتياط، بوجي يعلون، والجنرال الاحتياط، اسحق إيتان، ورئيس الأركان (احتياط)، شاؤول موفاز، بدراسة معمقة والتي في إطارها تمت بلورة الرؤية التنظيمية التي تستخدم عدة منظومات والتي في أساسها التوازن ما بين الأدوات والأساليب وتكييفها للمكونات المختلفة للمنظومة التنفيذية في القيادة. انعكست رؤية المعركة في أقوال قادت قيادة المنطقة الوسطى، بخصوص الحاجة للقيام بتوازنات ما بين استخدام قوة شديدة وبين كبح ذاتي والاستيعاب - بين الجزر والعصي. من جانب مطلوب العمل ضد "الإرهاب" بيد قاسية مع التأكيد على المستوى الميداني لقيادة المنطقة الوسطى وبالمقابل يجب خلق عوامل كابحة اقتصادية واجتماعية تقلل الدافعية لدى "الإرهاب".

عن موقع "معهد بحوث الأمن القومي"