يعتبر إستراتيجيو السياسة الأميركية أن الصين، وليس أي دولة أخرى، لا ألمانيا، روسيا، اليابان، ولا حتى الاتحاد الأوروبي مجتمعاً، هي المنافس الحقيقي للزعامة الأميركية على العالم، أي الدولة التي يمكنها أن تحسم الصراع الذي تقوده أميركا حالياً، من أجل الإبقاء على نظامها العالمي وحيد الأقطاب، ويدللون على ذلك بحجم الاقتصاد الصيني، الذي يأتي بعد الاقتصاد الأميركي مباشرة، وبفارق كبير عن الاقتصاد الياباني الثالث عالمياً، والذي بمعدل نموه الحالي والمستقر منذ سنوات، سيتجاوز الاقتصاد الأميركي خلال سنوات قليلة فقط، فإنه لا يمكن تصور وجود وهم لدى الصينيين أنفسهم، أو عدم اهتمام، بما هم عليه من أهمية عالمية، أي لا يمكن للصين أن تتواضع، أو أن لا تأخذ بعين الاعتبار أحقيتها في تبوّؤ المكانة التي تليق بها كقوة عظمى اقتصادياً، عسكرياً وسياسياً.
والحقيقة أن الصين التي كانت قبل الحرب العالمية الثانية، مجرد مستعمرة بريطانية، انطلقت أولاً على طريق التحرر من الاستعمار البريطاني والياباني، خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، بقيادة حزبها الشيوعي، وحققت ما أرادت من تحرر وطني، شمل معظم البر الصيني باستثناء جزأين صغيرين منها، هما من مخلفات الاستعمار، نعني كلاً من هونغ كونغ وتايوان، ثم بهدوء سارت الصين بعد ثورة التحرر الوطني، على طريق الثورة الثقافية، وانكفأت داخلياً، تطلق نموها الاقتصادي معتمدة على ذاتها فقط، وهي كل ما لديها نحو 8 ملايين كم مربع من الأرض، أي نحو ثلثي مساحة الوطن العربي فقط، ونحو مليار ونصف المليار إنسان، هم الثروة البشرية التي قام حزبها القائد بتوظيفها على أكمل وجه، والصين كما هو حال جارتيها اليابان وكوريا، ليس لديها ثروة نفطية أو غاز، كما هو حال دول الخليج العربي، أو حتى روسيا، وهكذا بنت اقتصادها على التصنيع بشكل أساسي.
واقتصاد يعتمد على إنتاج المواد المختلفة التي يعيش بها ومعها الإنسان، لا بد أن يتسم بقدرة تنافس الآخرين، خاصة أن الاقتصادات الكبرى قد سبقت الاقتصاد الصيني، نقصد ألمانيا، اليابان، كوريا وأميركا، ورغم ذلك فسرعان ما اجتاحت المنتجات الصينية كل الأسواق العالمية، بما في ذلك السوق الأميركي نفسه، وذلك لأنها قدمت سلعاً أرخص، بدرجة أساسية، نظراً لرخص الأيدي العاملة الصينية، أي أن الاقتصاد الصيني لا يعتمد على المواد الأولية، كما هو حال كثير من الاقتصادات العالمية القوية، التي تستند في قوتها للمواد الخام، مثل النفط والغاز، وحتى المواد الغذائية، لذا فإن قدرة الصين على المنافسة كقوة عظمى، تعتمد بدرجة كبيرة، بل وحاسمة على تصدير ما تنتجه هي من مواد مختلفة.
والحقيقة أن الصناعات الصينية التي أطلقت اقتصاد البلاد وجعلت منه ثاني أكبر اقتصاد عالمي، يضاف لقوتها العسكرية والبشرية، بحيث يجعل منها حالياً على الأقل، ثاني أهم دولة في العالم، ما كان لها أن تقف على قدميها، إلا لوجود عدة عوامل محلية، أولها بالطبع الثروة البشرية، التي تعني أيدي عاملة كثيرة ورخيصة، وفي نفس الوقت قوة شرائية، فما أن تكتفي الصين ذاتياً، حتى يعني ذلك إنتاجاً ضخماً، وثانيها مهارة الإدارة والقيادة، فالصين ورغم أنها كانت ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بلداً فقيراً، ومن ثم حكمه حزب شمولي، هو الحزب الشيوعي، إلا أن الصين تفردت عن كل الدول التي حكمتها الأحزاب الشيوعية، إن كانت قبل الحرب العالمية الثانية (روسيا ومن ثم الاتحاد السوفييتي) أو تلك التي حكمت دولاً بعد الحرب العالمية الثانية (دول شرق أوروبا، كوبا، فيتنام، وغيرها كثير من الدول)، سقط معظمها، إن لم نقل كلها، فيما بقي نظام الحكم الشيوعي في الصين وكوريا الشمالية، وإلى حد ما في كوبا.
والصين حتى في ظل الحرب الباردة، ورغم أنها كانت محكومة من قبل حزب شيوعي، إلا أنها لم تكن ضمن منظومة الأممية الشيوعية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي.
لم يسقط الحزب الشيوعي الصيني، مطلع تسعينيات القرن الماضي، وفي الوقت الذي كان فيه العالم منشغلاً قبل سقوط جدار برلين، بما يحدث من غلاسنوست وبيروسترويكا في الاتحاد السوفييتي، أي من محاولة لتدارك انهيار النظام الشمولي، كانت الصين بهدوء تحدث توازناً أو جمعاً بن الاقتصاد الحر واقتصاد الدولة، عبر تجربة فريدة هي سياسة الإصلاح والانفتاح، التي قادها زعيم الحزب الذي خلف عظيمه ماو تسي تونغ، نقصد دينغ شياو بينغ، والتي بدأها العام 1978، أي مع ثورة الخميني في إيران، ومع العقد الأخير في عمر الشيوعية الأوروبية.
وقد حققت الصين نمواً اقتصادياً بلغ في المتوسط 10% سنوياً، وارتفع معه معدل دخل الفرد من 186 دولاراً العام 1978، إلى ما يقارب الـ 10 آلاف دولار العام 2020، وهكذا بعد التحقق الذاتي الداخلي، من الطبيعي أن تنتقل الصين لتصدير إنتاجها السلعي إلى الخارج، ومن ثم من الطبيعي أيضاً أن تواكب التصدير حماية خطوط النقل البري والبحري والجوي، ثم أن يبدأ التفكير في فتح خطوط نقل جديدة عابرة للقارات، وهكذا فإن الصين بدأت جدياً في إنشاء طريق حرير عصري يصل إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط، وخط الحرير واحد من الطرق التي ظهرت عبر التاريخ لتصل بين الشرق والغرب، تربط شرق آسيا بأوروبا مروراً بالشرق الأدنى، وكانت سبباً في انتقال البضائع والثقافات والحضارات بين الشرق والغرب.
أي أن الصين من الطبيعي لها أن تنسج علاقاتها مع مختلف دول العالم، على قاعدة التبادل التجاري، وحقيقة الأمر أن معظم دول العالم، تقيم علاقات تجارية مع الصين، حيث تعتبر العلاقة مع الصين سلسة ومحترمة، فهي تخلو من الجشع الاستعماري الذي يسم علاقات الدول مع الولايات المتحدة، التي لا تحترم حتى أصدقاءها، فهي تبتزهم دائماً مالياً، وتتبع معهم سياسة أنانية، حتى أنها في أحد الجوانب، في الشرق الأوسط على سبيل المثال، تتبع سياسة التمييز بين حلفائها، تحديداً بين إسرائيل والآخرين، حيث تصر على الإبقاء على التفوق العسكري الإسرائيلي على دول الشرق الأوسط مجتمعة، وذلك يعني باختصار، أن أميركا غير قادرة على الاستمرار في منافسة الصين، لا اقتصادياً ولا سياسياً.
اقتصادياً استناداً إلى معدل نمو الاقتصاد الصيني مقارنة مع معدل نمو الاقتصاد الأميركي، كذلك بناء على أن الاقتصاد الأميركي يعتمد على ابتزاز استعماري للآخرين، لا يمكن أن يستمر طويلاً، واعتماداً على أن حجم الاقتصاد الأميركي مبني على مكانة أميركا كدولة تقود العالم، وتربط الاقتصاد العالمي بعملتها المحلية أي الدولار الأميركي، كذلك اعتماد الاقتصاد الأميركي بدرجة أولى حالياً على البرمجيات، فالصادرات الأميركية من السلع للخارج، لا تقارن بحجم الصادرات الصينية، وأميركا تصدر سلعاً بعينها، تنتجها شركات ضخمة أو عملاقة، ذلك أن أميركا تعتمد على الاقتصاد الحر تماماً، أو اقتصاد السوق، فيما الصين - كما أشرنا - تعتمد على الاقتصاد المختلط، أي الاقتصاد الحر، مع إدارة الدولة المحكومة بحزب كبير يعد بين صفوفه نحو مئة مليون إنسان، وهو حزب وطني، ليس براغماتياً، أي حزباً يهدف للوصول للحكم بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
لدى الصين إذاً أخلاق سياسية، لا تتوفر لدى الأميركيين، وإنه لأمر ذو دلالة بالغة، وذكية، تتوافق مع ما يتسم به الصينيون، من مثابرة وهدوء وصبر، وذكاء، أن تدخل الصين إلى الشرق الأوسط عبر الرياض، حيث زارها الرئيس الصيني أواخر العام الماضي، فيما تأتي فلسطين بعد السعودية من حيث الاهتمام الصيني، نظراً لما تتمتع به فلسطين من مكانة أخلاقة لدى شعوب العالم بأسره، وإذا كانت الصين - على عكس أميركا وإسرائيل - قدمت للمنطقة، للعرب والمسلمين هدية عظيمة هي المصالحة التاريخية بين طهران والرياض، فإن الصين مع زيارة الرئيس محمود عباس بناء على دعوة منها، تسعى لتقديم هدية مماثلة للشعب الفلسطيني، متمثلة بالمصالحة الداخلية وإنهاء الانقسام.