رحلة عذاب اللاجئين وموتهم

تنزيل (4).jfif
حجم الخط

بقلم مهند عبد الحميد

 

 

 


«لا يا بحرْ.. مانك بحرْ
لو كنتْ.. كنت تشردقت من قهرنا
لو كنتْ.. كنت بأهلنا غصّيتْ»
فرج بيرقدار/ شاعر سوري
-----
سفينة صيد متهالكة تفتقد إلى كل مقومات السلامة غادرت أحد الشواطئ المصرية - مجهول الاسم - وصولا إلى ميناء طبرق الليبي - وقد استقلها مهاجرون من جنسيات مختلفة بعد أن دفع كل شخص منهم مبلغ 4500 دولار كانت حصيلة ما يملكون من مقتنيات أو استدانات من هنا وهناك لقاء تذكرة الحيز شديد الضيق الذي سيشغله في السفينة. اختلفت الروايات حول عدد الركاب بين 500- 750 شخصا بينهم أطفال. أقلعت السفينة من طبرق يوم 9/6 متجهة إلى بلاد الأحلام السعيدة، إلى أوروبا، ومن المفترض أن تكون محطتها الأخيرة في شواطئ إيطاليا.
دخلت السفينة في محنة صباح يوم 13/6، يقول تقرير منشور في «بي بي سي»، إن سفينة الصيد المزدحمة لم تتحرك لمدة سبع ساعات قبل انقلابها، وهذا يتعارض مع ادعاء اليونان بأن السفينة لم تكن لديها مشاكل في الملاحة ولم تكن بحاجة إلى الإنقاذ.. ويقول التقرير، إن القوة الحدودية الأوروبية (فرونتكس) رصدت سفينة المهاجرين الساعة 8 بتوقيت غرينتش وأبلغت السلطات اليونانية. وتقول منظمة «ألارم فون» المتخصصة بتقديم الدعم للمهاجرين المعرضين للخطر في عرض البحر، إنها تلقت مكالمة الساعة 12:17 بتوقيت غرينتش تفيد بأن السفينة في محنة. معظم الوقت الذي كان يسمح بإنقاذ السفينة من الغرق جرى هدره وسط إصرار المسؤولين اليونانيين على أن السفينة في طريقها بأمان إلى إيطاليا ولم تكن في مأزق. من الساعة 8 صباحا إلى الساعة 11 ليلا التي غرقت فيها السفينة.
ساهمت مجموعة من السفن في إنقاذ حياة 104 أشخاص، وعثر على 78 جثة، وفر القبطان على متن قارب صغير بحسب منظمة «ألارم فون»، ولا يزال 500 شخص في عداد المفقودين. ينضم موتى جدد إلى قوافل الضحايا في سنوات سابقة. فقد سجل العام 2022 موت 3789 لاجئا أثناء محاولاتهم دخول أوروبا. وسجل العام 2021 موت 3428 شخصا، وفي العام 2020 مات 2350 شخصا، والعام 2019 مات 2829 شخصا وفي العام 2018 مات 3136 شخصا بينما مات في العام 2017 أعلى نسبة لاجئين وهي 4255 شخصا، الأرقام صادرة عن الموقع الإلكتروني للمنظمة الدولية للهجرة.
الغرابة في كارثة الغرق، أن مصير المفقودين لا يزال غير معروف، فلم يضف ناج واحد إلى قائمة الناجين ولا ضحية واحدة إلى قائمة الموتى، لا اكتراث تتشارك فيه وسائل الإعلام وبخاصة العربية مع المنظمات المعنية بحقوق الإنسان وبقضايا اللاجئين باستثناءات قليلة  يتجاهلون الوصول إلى النهايات المفجعة للباحثين عن لقمة الخبز والأمان، في الوقت الذي تنعدم فيه أي حساسية من قبل أنظمة الحكم التي تصنع الأزمات والكوارث وتقدم في كل مرة الدليل على أنها غير معنية بالبحث عن حلول لإنقاذ شعبها ولا التخفيف من آلامهم. ويبقى سيل من الأسئلة حول محنة اللاجئين التي لم يكن الغرق إلا فصلا واحدا من فصولها السوداء.   
قضية اللاجئين والمهاجرين والنازحين عن أوطانهم تحتل المشهد في عالم يقوده نظام النهب والتوحش والربح السريع والصفقات. ملايين السوريين ومن قبلهم ملايين العراقيين والأفغان ومن بعدهم ربع الشعب الأوكراني، وقبل اشهر، انضم السودانيون ومليون نازح جديد من جمهورية الكونغو والحبل على الجرار كما يقول المثل. الحروب الاستعمارية والاحتلالات العسكرية من جهة والصراع على السلطة من جهة أخرى، واستبداد الحكام الطغاة وقمعهم وفسادهم، فضلا عن الأزمة الاقتصادية وما يترتب عليها من جوع وبطالة وفقدان الأمل بحياة طبيعية بسيطة. يستمر واقع يزداد فيه الأغنياء غنى ويزداد فيه الفقراء فقرا وبؤسا وموتا، هؤلاء يصبحون فائضا عن الحاجة في بلدانهم، وقد بلغ بهم الأمر إلى مستوى لا يوجد فيه ما يخسرونه غير ذل العيش، لذا نجدهم وسنجدهم يغامرون بحياتهم علّ وعسى أن يعيشوا كأدميين.
حاولت الشعوب الخروج من أزماتها بفتح الانسداد الخانق عبر الانتفاضات، لكنها جوبهت بحلف غير مقدس عمل على تحطيم إرادة الشعوب ولم يمكنها من تحقيق أهدافها، منتصرا للنظام القديم، وكان جل ما يصبو إليه الحلف غير المقدس هو استبداله نظاما مستبدا وتابعا بنظام مستبد وتابع، وانقضى التدخل بتكريس النظام القديم على صورة مهزلة، انتصر المال على الدم وفشل التغيير المنشود. وكان من الطبيعي أن يبحث المواطنون عن البديل. فالذين حرموا من تحرر بلدانهم قاموا بمغادرتها باعتبارها غير قادرة على الإيفاء بأبسط شروط المواطنة. كان البديل هو اللجوء والهجرة إلى دول الغرب التي خذلتهم داخل بلدانهم. ومع بداية تدفق اللاجئين إلى الغرب صعدت العنصرية بكل ألوانها، بعضها اعتلى سدة الحكم، وبعضها الآخر أوجد له ثقلا في المعارضة. انتقل صدى الانتفاضات العربية إلى داخل الغرب ووضعها مرة أخرى أمام خيارين، الأول، العمل على عودة اللاجئين إلى بلدانهم بالترافق مع إيجاد حل سياسي واقتصادي وإعادة إعمار البلدان التي تعرضت للدمار، حل يضمن أيضا سلامة اللاجئين وعدم تعرضهم لثأر الأنظمة بإشراف مؤسسات الأمم المتحدة. الخيار الثاني استيعاب اللاجئين داخل دول الغرب وبعض البلدان العربية ضمن خطة تنمية بشرية بمشاركة الأمم المتحدة.
لم تأخذ دول الغرب بالخيارين، فقد انسحبت من الخيار الأول ومكنت الأنظمة المستبدة من تجاوز العزلة والعودة إلى مواقعها السابقة دون قيد أو شرط – عاد النظام السوري إلى الجامعة العربية وتُرك اللاجئون السوريون يواجهون مصيرهم بأنفسهم، أو يتعرضون للمساومة في تركيا ولبنان. وانسحبت دول الغرب من خيار استيعاب اللاجئين باستثناء ما احتاجته بلادهم في السنوات الأولى للجوء، وأبرمت الصفقات مع أنظمة وجماعات تتضمن تقديم الدعم المالي لها مقابل منع اللاجئين من دخول هذا البلد أو ذاك وإعادتهم من حيث أتوا وتعريضهم لأشكال من التنكيل والابتزاز. في هذا السياق، نشأ سوق للمقايضة المعلنة والخفية، كالتهديد بفتح الأبواب أمام الباحثين عن لجوء والتراجع عن ذلك مقابل أثمان. ليس هذا وحسب فقد قدمت اليونان نموذجا في التعامل من اللاجئين المهددين بالموت عندما تقاعست عن إنقاذ حياتهم. كما تقول تقارير منظمات معنية بإنقاذ اللاجئين. ووضعت العديد من البلدان العقبات الكثيرة وفتحت معسكرات للعزل والإبعاد وأصبح منع اللاجئين ورقة انتخابية تتنافس على استخدامها تنظيمات عنصرية ويمينية.
قضية الهجرة واللجوء قضية يتنازعها معسكران، معسكر الحرب والتوحش الاقتصادي والعنصرية وهو الأقوى، ومعسكر الديمقراطية وحقوق الإنسان وهو الأضعف، قد تتغير مواقع الأقوياء والضعفاء إذا ما أعيد طرح السؤال الأخلاقي وجوهره مصالح الشعوب في مناهضة الحرب والتوحش والعنصرية.