كان كتابه (لن أكره) الذي صدر بعد عامٍ من المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال حربه العدوانية على قطاع غزة 2008/2009، والتي أودت بحياة ثلاثة من بناته وابنة أخيه، وجرح عدد من أبناء عائلته، مدعاة لتساؤل الكثير من الفلسطينيين، ما هي دوافع د. عز الدين أبو العيش "الضحية ووليِّ الدم" في نشر كتابٍ يوحي عنوانه وكأنه يقدم شهادة براءة لدولة الاحتلال؟! ولماذا التزم د. أبو العيش الصمت ولم يصدر عنه الكثير من التصريحات النارية التي تدين الاحتلال وتتوعده بالويل والثبور وعظائم الأمور، باعتبار المجزرة، جريمة حرب وجريمة بحق الإنسانية؟ وما الذي حقيقة يدور في ذهن أبو العيش جهة الانتقام لدماء أطفاله وأفراد آخرين من عائلته؟ تساؤلات كثيرة طرحها الشارع الفلسطيني وأثار معها الكثير من الغرابة والشكوك.
كغيري من الفلسطينيين، لم تكن لي سابقة معرفة بالدكتور أبو العيش، إلى أن دعاني أحد الأصدقاء للقاء به في بيته ومشاركته طعام العشاء، ثم تكررت بيننا اللقاءات في أكثر من مكان، ومنها معهد بيت الحكمة.
كان اسم د. أبو العيش والمأساة التي حلَّت بعائلته قد تناولتها وسائل الإعلام العربية والعبرية والغربية لفظاعة الجريمة، وكونه كان يعمل طبيباً مختصاً في أحد مستشفيات الاحتلال!! كانت المجزرة تبدو لغزاً حار في فهمه الشارع الفلسطيني، فهل الذي وقع كان خطئاً في التقدير، وأنَّ المستهدف ربما كان شخصاً أو بيتاً آخر!! سؤال مشروع قد طرحه البعض في سياق صعوبة فهم المشهد أو الوعي به.
دفعني الفضول وهول المجزرة للتعرّف أكثر على الرجل وسماع حقيقة ما جرى على لسانه، بكل التفاصيل التي تسمح لي بالتوسع فيما أنوي القيام به من نشر كتابٍ حول شخصيته وما ألمَّ به من مصاب جلل، والتحركات التي يقوم لها كرسولٍ للمظلومية الفلسطينية.
بعد التعارف في لقائنا الأول، جلسنا نستمع إليه، حيث قدَّم لنا كتابه الذي يتناول سيرته الذاتية ووقائع المجزرة ومبررات اختياره لهذا العنوان المثير للجدل.
وجدت نفسي أمام إنسان مثقف واسع العلم والمعرفة، شخص له رأي مختلف في طريقة تفكيره بملاحقة الاحتلال فضائياً، فالمجزرة -من وجهة نظره- قد وقعت وليس هناك اليوم من يستطيع أن يرد إليه فلذات كبده، فقد ارتحلنَّ إلى الرفيق الأعلى شهداء، وعليه العمل لتخليد ذِكرهنَّ كأحد ضحايا الاحتلال وجرائمه البشعة بحق الفلسطينيين والإنسانية، وهذا هو السبب الذي جعله يُنشئ مؤسسة تعليمية باسم (بنات من أجل الحياة)، لضمان ألا تُنسى وقائع تلك المجزرة الإسرائيلية من الذاكرة الفلسطينية والأممية، أسوة بمجاز تاريخية سابقة، مثل: مذبحة دير ياسين وكفر قاسم والمدرسة الأميرية بمدينة رفح، وغيرها.
كان تفكير د. أبو العيش يذهب أبعد مما فكَّر به الكثير من الفلسطينيين، وكان قراره أن يأخذ القضية إلى محاكم الاحتلال أولاً، فالجريمة هي مجزرة مكتملة الأركان، وعليه أن يستفرغ الجهد داخل نظام القضاء الإسرائيلي، وفضح هذا النظام العنصري وتعريته، إذ لم يسبق له أن أقام العدل وأنصف فلسطينياً، وأنَّ وقائع الجريمة/المجزرة ستكشف تواطؤه وفقدانه لأيّ مصداقية أمام دول العالم.. لذا، تابع د. أبو العيش ملفات القضية في المحاكم الإسرائيلية الابتدائية وحتى محكمة الاستئناف العليا، مستنداً إلى حقه كحاملٍ للجنسية الكندية، وظل على استعداد أن يدفع كلَّ ما تتطلبه إجراءات المحاكم، لتبقى جلسات القضية حيَّة، تتداول أحكامها الهزلية الظالمة ألسنةُ الكثيرين في الشرق والغرب حول مهزلة نظام العدالة في إسرائيل.
بالطبع أخذ كتابه طريقه إلى المطابع العالمية، وتمَّ نشره بـ25 لغة، وهذا ما فتح له آفاق الغرب الذي أصبح مسرحاً لتعاطف إنساني غير مسبوق مع قضيته، حيث استضافته العشرات من الجامعات الأوروبية والأمريكية والمؤسسات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني لتقديم روايته التي أصبحت عالمية، وتحولت سرديته إلى مسرحية تمَّ عرضها في بعض الدول الأوروبية ودول أمريكا اللاتينية، مما أكسب القضية تعاطفاً إنسانياً كبيراً، وكانت محاضراته في تلك الدول الغربية تنتهي هي الأخرى بتقديم شهادات فخرية وجوائز تقديرية له؛ لأنه اختار مساراً إنسانياً في تبليغ رسالته يُحقق من خلاله التعريف بمظلوميته وقضية شعبه الفلسطيني.
اليوم، وفي كل محاضرة يُدعى لها في الجامعات الغربية، تكون مناسبة له لطرح القضية الفلسطينية والتعريف بالمأساة التي طالت أبناء شعبه من اللاجئين في الوطن والشتات، والتعريض بوحشية الاحتلال وانتهاكاته المستمرة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، وفضح جرائمه ونظامه العنصري (الأبارتايد).
راهن الاحتلال على استسلام د. أبو العيش من خلال استنزافه مالياً، لينسى قضية بناته الشهيدات، إلا أنه ولأكثر من عشرة سنوات لم يتوقف أو يتراجع عن ملاحقة قادة الاحتلال وجيشه بدءاً بالمحاكم الإسرائيلية ثم بالمحاكم الدولية ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. لقد عقد العزم ألا يستسلم أو يسمح لليأس أن يُدركه جراء تجاهل المحاكم الإسرائيلية. ولذلك، نراه يتحرك في كلِّ مكان من برلمانات أوروبا وأمريكا اللاتينية، ويجول في جامعاتها ومؤسساتها الحقوقية لعرض قضية بناته كمشهد يُلخص مأساة كلّ الضحايا من الأطفال الذين قتلتهم آلة الاحتلال العسكرية.
لذلك، نجده ومنذ الأيام الأولى لبدأ جلسات المحاكمة في إسرائيل، يؤكد بأنّ قضيته هي قضية كلّ طفل فلسطيني استشهد بنيران جيش الاحتلال، وأنَّ دفاعه هو عن حقوق بنات وأطفال أبرياءٍ استشهدوا، وليس لأحدٍ منهم علاقة بكلِّ ادعاءات قادة الاحتلال وعسكره بأنّهم يقاتلون تنظيمات مسلحة في غزة!!
مرَّ د. أبو العيش خلال رحلة إصراره على تجريم الاحتلال بمحطات عدة، ولم تثنِه محاولات محاكم الاحتلال التعجيزية للتخلي عن القضية، إذ أنَّ موقفه ظلَّ على صلابته، حيث أشار إلى أنَّ القضية بالنسبة له ليست فقط بناته وحدهنَّ، بل هي قضية شعب بأكمله، وأنَّ ما يقوم به منذ سنوات هو محاولة متواضعة لإنصاف ضحايا الاحتلال، حتى لا يتحول الشعب الفلسطيني إلى مجرد أرقام، أو كما قال: نحن لسنا أرقاماً!! نحن بشر لنا أحلامنا وكرامتنا وإنسانيتنا وحقنا في تقرير مصيرنا.. أنا حقيقة لا أطالب باعتذار على طريقة "نأسف لما حدث"، بل أطالب باعتذار رسمي يُحمِّل الاحتلال ودولته المارقة تبعات المسؤولية الكاملة عن تلك الجريمة، وبالتالي بقية الجرائم التي راح ضحيتها أطفال فلسطينيون آخرون في قطاع غزة.
لقد أعطى د. أبو العيش بُعداً أممياً وحضوراً واسعاً للمظلومية التي لحقت به، ولكنه نجح أيضاً في ربطها بالمظلومية الفلسطينية بشكل عام، وتكفي مواقفه في تحدي الاحتلال ومواجهة محاكمه الظالمة التي تفتقد للعدالة القضائية والإنسانية، وإحراجها أمام المجتمع الدولي. اليوم؛ يرفع د. أبو العيش عقيرته عالياً، ويصرخ في كبرياء: لن أتراجع عن قضية حق، وسأحمل القضية إلى المحاكم الدولية، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية بعدما استنفدت كلَّ الطرق القانونية، وليتحمل الاحتلال تبعات ما أنا مقدم عليه. إنَّ القضية ليست خاصةً ببناتي فقط، بل هي محاكمة لدولة الاحتلال، ومحاولة لإنصاف كلِّ الضحايا، وتثبيت للرواية الفلسطينية التي يحاول كثيرون طمسها.. إنَّ رسالة د. أبو العيش لكلِّ الضحايا من أبناء وطنه: سأبذل كلَّ الجهد حتى لا يفلت الاحتلال من العقاب على انتهاكاته لقوانين الحرب وجرائمه التي اقترفها بحق أهلنا في قطاع غزة.. والعهد بيننا هو العهد.