الميدان هو كلمة السر في السياسة، ومفتاح الخرائط في المعارك يحدد ألوانها ويرسم خطوطها ويضع للتاريخ مساراته ... "كاسر الأمواج" هو اسم العملية التي أطلقها الجيش الإسرائيلي على اجتياحاته وعملياته ضد المدن الفلسطينية والنشطاء الفلسطينيين ردا على أمواج متتابعة من الغضب الذي يعبر عن واقع يزداد صعوبة، وما بين الأمواج الطبيعية وكاسرها الصناعي تنتصر الطبيعة دوما لأنها أكثر تعبيرا عن حكمة الجيولوجيا.
كأن هذا ما حدث ويحدث في الضفة الغربية منذ عام ونصف العام صراع إرادات يتجسد بكامل هيئته بين شبان يحاولون التلويح بشارة النصر بأيدٍ مكسورة، وبين جيش مدجج بالطائرات والدبابات يحاول أن ينتصر، وبين هذا وذاك لم تعد النفاثة بالنصر ولم تسحق الجنازير إرادة عصية على الهزيمة.
الصيف الماضي لم تكن أجهزة الأمن الإسرائيلية تتوقع استمرار وتصاعد الأوضاع في الضفة حين كانت محصورة في مخيم جنين، فقررت إنهاء الظاهرة في عملية ضد المخيم ولكن أوقفها اغتيال الصحافية بقناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة لتمتد الظاهرة إلى نابلس وتشكل مجموعات عرين الأسود.
وما أن جاء الخريف حتى أدركت المؤسسة أن الأمر أكثر تعقيدا من موجة عابرة بل ظاهرة متنامية بالتأكيد كانت وليدة مناخات كثيرة استولدتها لتعبئ فراغ اللحظة المأزومة، منها ظهور جيل جديد مصاب بالإحباط وضعف السلطة وفقدانها السيطرة والسوشيال ميديا التي أنتجت شكلا جديدا للبطولة.
توقفت المؤسسة أمام حقيقة ما يدور ليدور النقاش الصاخب عن شكل القضاء على حالة التمرد. وكان السؤال الحائر هل تعزز إسرائيل السلطة لتقوم بالمهمة أم تعمل بقوات جيشها بما تحمله من مغامرة المزيد من إضعاف السلطة وما يعني ذلك من تحملها مسؤولية أمنها. حاولت إسرائيل أن تتبع المسارين وفي كليهما ما عزز مزيدا من الخسارات، فلم تحقق قواتها نتائج بل زاد الأمن تدهورا وتزايد ضعف السلطة، ويبدو أنه مع تغير الحكومة رجحت الكفة لصالح المؤيدين لإضعاف السلطة التي يتناقض وجودها مع مستجدات السياسة في حكومة نتنياهو الجديدة.
ما زال نفس النقاش دائرا بين تطرف السياسة التي تكتب محاضرها بالعنف وحريق حوارة وترمسعيا وإزالة السلطة لتعبيد الطريق لضم نظيف، وبين واقعية الجيش القلق من تحمل المسؤولية لثلاثة ملايين يزدادون رفضا لوجوده وسيضطر لملاحقة كل فرد.
أما الأسوأ فهو الاحتلال المباشر أمام العالم بعد أن تم إجراء عملية تجميلية قبل ثلاثة عقود ما يصنع مشكلة أكبر لإسرائيل، إما الظهور كدولة فصل عنصري أو ضم السكان وهو ما يشكل مأزقا استراتيجيا أكبر من التهديد الأمني رغم فداحة الثمن.
تدفع السياسة نحو إزالة السلطة مطالبة باجتياح ينهيها بضربة واحدة، لكن الجيش يحاول أن يسير بين خطين متوازيين يخطئ حين يظن أنهما يلتقيان. فاستمرار العمل يزيد من المساس بالسلطة ويصنع حالة أكثر تمردا عن كل ما هو قائم من هندسة تم الاتفاق عليها، فالميدان كما سبق أعلاه هو من يرسم خرائط السياسة ويطيح بكل الخرائط القديمة.
بات واضحا أن السلطة الفلسطينية التي صنعتها ضرورات ومناخات لم تعد قائمة تغيرت. فالمياه تحركت في نهر التاريخ سواء لجهة صعود أجيال فلسطينية جديدة لم تعد معنية بكل ما سبق بل وعلى تضاد معه أو لجهة انزياح تاريخي يحدث في إسرائيل من سيطرة لحالة تستخرج من أسفار العهد القديم برنامجا سياسيا للعهد الجديد متحدية العالم، بل إنها تخرج له لسانها أن السلطة هي الضحية الأولى لحركة التاريخ على الخريطة.
وبات واضحا أيضا فشل الولايات المتحدة التي سايرت إسرائيل لعقود في تجريف عملية التسوية خلال محاولتها المتأخرة بتعزيز السلطة كمطلب وهدف أميركي في قمتي العقبة وشرم الشيخ، وهي أقوى محاولة علينا قراءتها جيدا والميدان يفعل فعله باتجاهات أخرى، والسياسة في إسرائيل لها حساباتها ولم يعد سوى سؤال كيف ستكون النهاية وخصوصا أن الممانعة بقيت لدى الجيش الإسرائيلي الذي يزداد مع الوقت ثقل عناصر اليمين واتجاهاته داخله، وتعانده السياسة ببرامجها؛ الاستيلائي وتسونامي الاستيطان الذي يصنع واقعا مختلفا عن رؤيته ويفرض عليه الميدان بالصدام وقائعه.
كان متوقعا بعد حكومة يلعب فيها سموتريتش دور الجوكر أن تدخل السياسة الفلسطينية في حالة استنفار وانعقاد دائم تنفض عن نفسها غبار الانتظار أمام موجة رياح عالية تهب مهددة باقتلاع كل شيء، كانت لديها فرصة أهدتها لها صناديق الاقتراع في الجانب الآخر تؤكد ما فشلت أن تقنع فيه العالم لسنوات، فقد وفرت لها ما يكفي من الذخيرة لمعركة تضمن فيها الانتصار لكنها لم تفعل ولا يبدو أنها ستفعل، بل استسلمت لقدر يصنعه أسوأ ما أنتجت السياسة في إسرائيل منذ إقامتها ولكنها أسهل ما يمكن العمل مقابلها.
ولكن إسرائيل التي تسيطر على الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ ما يقرب من ستة عقود ما زالت تكرر نفس التجربة في تطويع الشعب وإرغامه على حب الاحتلال بالقوة العسكرية تبدو أمام معضلة لا تقل عن معضلة السياسة الفلسطينية، فالسياسة في إسرائيل تغرق في وهم الأسطورة والجيش يغرق في وهم القوة وكلاهما يحاول إيجاد حل منذ عقود طويلة.
ومع الزمن تتفاقم الأزمة وتتحول من أزمة أمنية تكتيكية إلى أزمة استراتيجية. هكذا يلعب التاريخ لعبته حين يتحالف مع الواقع ويسخر من الأوهام.