هارتس : "تطهير عرقي": هكذا سمّم الجيش الإسرائيلي أراضي عقربا في العام 1972

حجم الخط

بقلم: عوفر اديرت


حتى بعد نصف قرن فإن قراءة بروتوكولات قيادة منطقة "يهودا" و"السامرة" تترك شعوراً قاسياً. مرحلة تلو الأخرى، من التخطيط وحتى التنفيذ، يتم فيها توثيق إنشاء مستوطنة جديدة. في البداية تم تجريد سكان القرية الفلسطينية المجاورة من أراضيهم بذريعة كاذبة وهي إقامة مناطق تدريب للجيش الإسرائيلي. وبعد إصرار الفلسطينيين على فلاحة الأرض خرّب الجنود أدوات عملهم. بعد ذلك تلقى الجنود أمراً بسحق المحاصيل بالسيارات لتدميرها. وعندما لم ينفع ذلك وجدوا حلاً أكثر تطرفاً وقسوة. قامت طائرة بالتحليق في الجو ورشت مادة كيميائية سامة على الأرض، مادة قاتلة للحيوانات، وخطيرة على الإنسان.
وجدت هذه القصة صدى لفترة قصيرة عندما كشفت في وسائل الإعلام الأجنبية في العام 1972. ولكنها لم تمنع في النهاية من إقامة مستوطنة "غيتيت" في غور الأردن على أراضي قرية عقربا الفلسطينية، التي تم تسميمها على يد الجيش الإسرائيلي. فقط الآن، بعد 51 سنة، يتم كشف التفاصيل الكاملة. تحقق هذا الأمر بفضل مشروع جديد لمركز "تاوب" في جامعة نيويورك. يجمع هذا المشروع ويصنف كل المادة التاريخية التي تتناول مشروع الاستيطان، التي يمكن من الآن فصاعداً الاطلاع عليها. بفضل هذا المشروع فتحت أمام الجمهور آلاف الملفات المغلقة في أرشيف الدولة وأرشيفات أخرى تسلط الضوء على أحد المشاريع المهمة في تاريخ الدولة.
الملف، الذي يوثق تسميم الأراضي في عقربا، محفوظ في ملفات الجيش الإسرائيلي. الوثيقة الأولى فيه هي بتاريخ كانون الثاني 1972. أمرت قيادة المنطقة الوسطى في حينه لواء الغور بالتأكد من "عدم فلاحة الأراضي في المنطقة، بما في ذلك القضاء على المحاصيل الموجودة عن طريق دوسها بالسيارات". وثيقة أخرى تعود لشهر آذار تظهر أن هذه المهمة لم تستكمل بنجاح. "فالمسؤول عن الأملاك المتروكة والحكومية" في "يهودا" و"السامرة" طلب استدعاء المخاتير ورؤساء العائلات وذكرهم بأن "لا يتجاوزوا الأوامر المذكورة أعلاه" وإلا فإن "مزروعاتهم ستدمر ويتوقع تقديمهم للمحاكمة بسبب الدخول إلى منطقة مغلقة بدون تصريح".
في نيسان، صعدوا درجة في الجيش الإسرائيلي. عُقدت جلسة في قيادة المنطقة الوسطى بمشاركة ضباط من الجيش وممثل عن قسم الاستيطان في الوكالة اليهودية، مسؤول عن الممتلكات المتروكة والحكومية، حملت عنوان "رش المناطق المستثناة في منطقة (تل طال)". هذه الاسم كان الاسم الأصلي للمستوطنة التي أقيمت هناك، وبعد ذلك أصبح اسمها "غيغيت". هدف الجلسة كما جاء في الوثيقة كان تحديد "الصلاحيات ووضع جدول زمني لتنفيذ عملية الرش". ضمن أمور أخرى كتب في الوثيقة أنه بعد عملية الرش سيحظر على الأشخاص الدخول إلى المناطق التي تم رشها لمدة ثلاثة أيام "خوفا من تسمم المعدة". سيكون محظوراً على الحيوانات، كما كتب، الدخول إلى هذه المناطق لمدة أسبوع آخر.
ضابط ركن القيادة، المسؤول عن الأضرار في الجيش الإسرائيلي، قدر الضرر المتوقع للفلسطينيين نتيجة عملية الرش وقال، إنه سيكون بين 12 – 14 ألف ليرة (ما يساوي، اليوم، 85 ألف شيكل). مهمة استدعاء طائرة الرش تم إلقاؤها على الوكالة اليهودية. وقد تم تكليف ممثلها بـ"تنسيق الترتيبات مع شركة (كيما افير)"، التي كانت شركة رش للمزروعات من الجو والتي كانت بملكية كيبوتسات وموشافات وتمت إدارتها من قبل المركز الزراعي كجمعية تعاونية.
في وقت لاحق من الشهر ذاته، تم عقد جلسة أخرى. "لا توجد أي معارضة من قبل هذه القيادة لتنفيذ عملية الرش كما هو مخطط له"، كتب. وبعد ذلك تم تفصيل العملية: "سيهتم المسؤول عن الممتلكات المتروكة والحكومية بترسيم حدود المنطقة بشكل دقيق وسيوجه الطائرة التي ستقوم بالرش وفقا لذلك". بعد ذلك، كما كتب، سيتم دفع تعويضات للفلسطينيين "في حالة تقديم دعاوى".
في وثائق أخرى في الملف، يتبين أن عملية الرش، التي استهدفت "إبادة المحاصيل" نفذت في 17 نيسان بعد المصادقة على عملية الرش شفوياً من منسق أعمال الحكومة في "المناطق". وقد شملت نحو 500 دونم. ويتبين من الوثائق أيضا بأنهم في الجيش خصصوا مبلغ 14 ألف ليرة لدفع تعويض عن الأضرار لمرة واحدة، لأصحاب المحاصيل التي تضررت من عملية الرش. ولكن "دفع التعويضات تم تأجيله... على فرض أن الأمر سيساعد في المفاوضات التي تواصلت...".
سُمع صوت الفلسطينيين أيضا من وراء ملف الأرشيف. ففي 14 أيار 1972 ارسل رئيس مجلس عقربا رسالة لوزير الدفاع. في الملف ظهرت بخط اليد باللغة العبرية. ربما أن الأمر يتعلق بترجمة قام بها الجيش الإسرائيلي. "عدد سكان القرية هو 4 آلاف نسمة، وهم يعتاشون من 145 ألف دونم من الأراضي الزراعية"، كتب في الرسالة. بعد ذلك ادعى بأن "السلطات" قامت بإحراق القمح وصادرت أراضي السكان، وتركت لهم 25 ألف دونم فقط. "الأضرار أكبر من أن تحتمل. ماذا الذي سنفعله بالـ 25 ألف دونم التي بقيت لنا وكيف سنستطيع العيش؟ نحن نعيش في دولة ديمقراطية لا يوجد فيها تمييز عنصري، نحن نريد إلغاء الاستيطان في أراضينا والسماح لنا بالاستمرار في العيش على الزراعة في أراضينا حسب القانون والعدالة"، كتب في الرسالة.
في أيار، تفرغوا في الجيش لاستكمال السيطرة بالكامل على الأرض التي تم تسميمها. في الوثائق من تلك الفترة تم الحديث عن إقامة "البؤرة الاستيطانية" وبعد ذلك "مستوطنة دائمة" على هذه الأراضي. وكتب في إحداها، "نطلب المصادقة على احتلال الأرض لغرض إقامة مستوطنة". في آب، أقام قائد المنطقة الوسطى في حينه، رحبعام زئيفي، البؤرة الاستيطانية، للناحل "غيتيت"، على الأرض على اسم آلة موسيقية قديمة يذكر شكلها بشكل الغور الذي يشاهد في المكان. في البداية سكن هناك جنود الناحل في الخيام وبعد ذلك في المباني. في كانون الثاني 1973 تحولت البؤرة إلى نقطة استيطان ثابتة، وفي 1975 أقيم موشاف في المكان.

من أجل الوطن
ترأس الدكتور يعقوب لازوفيك، المسؤول السابق عن أرشيف الدولة، مشروع مركز "تاوب". يقول لازوفيك، أدرك إلى أي درجة كانت حكومات إسرائيل مركزية في مشروع الاستيطان. "الحكومة هي المحرك، وكل شيء يمر عبرها"، قال. أضاف المؤرخ البروفيسور رون تسفايغ، رئيس مركز "تاوب" السابق، إن "الاطلاع على المادة يمكن من الفهم بشكل افضل بأن هذا المشروع الوطني الضخم هو نتيجة مبادرات حكومات إسرائيل المتعاقبة، وليس فقط اليمين، بل جميعها". مع ذلك حسب قوله، "من هذه النقطة نحن نسمح للباحثين بالغوص في أعماق المادة. نحن لا نسوق أي أجندة، بل البحث فقط".
تشمل قاعدة البيانات هذه اكثر من 11 ألف ملف في الأرشيف وتتكون من 1.5 مليون صفحة. جمعها أعضاء المركز بجهود كبيرة خلال خمس سنوات تقريبا من مصادر مختلفة، على رأسها أرشيف الدولة وأرشيف الكنيست وقواعد بيانات قضائية. الباحثون الذين تم توظيفهم في المشروع بصورة صدفية تماما كانوا في معظمهم من سكان المستوطنات، في الحاضر أو في الماضي. "لقد قمنا ببناء أداة جديدة للبحث تمكن الجمهور الواسع للمرة الأولى من التحقيق بشكل معمق وجذري في مشروع الاستيطان. الملفات مرت بالتصنيف ويمكن البحث فيها مثلما لم يكن هذا متاحا حتى الآن"، قال لازوفيك. الاطلاع على قاعدة البيانات الجديدة يسمح بالتحقيق في مشروع الاستيطان من كل الزوايا الممكنة: السياسية والجماهيرية والاقتصادية والجغرافية والاستراتيجية والتكتيكية وغيرها.
إحدى الوثائق المحفوظة فيه هي جلسة الحكومة التي عقدت في 19 كانون الثاني 1971. رئيسة الحكومة في حينه، غولدا مائير، وجهت في بداية أقوالها طلباً خاصاً للوزراء "قبل البدء في النقاش أريد الطلب. كان مقبولا علينا أن كل ما يتعلق بالمستوطنات والبؤر الاستيطانية والمصادرة وما شابه نفعله ولا نتحدث عنه، على فرض أن الأهمية هي الفعل وليس القول. على أي حال، الأهمية الكبرى هي الفعل"، قالت غولدا. أقوالها هذه تظهر تحت عنوان "تصريحات وبيانات في شؤون المستوطنات والبؤر الاستيطانية"، في محاضر الجلسة.
بعد ذلك، طلبت غولدا مائير بشكل حاسم من الوزراء الامتناع عن الظهور في وسائل الإعلام أثناء زياراتهم المستوطنات. "لم نتعود على ظهور الوزراء في البؤر الاستيطانية أثناء الاحتفالات وعلى إجراء مقابلات مع الصحف. أطلب استمرار ذلك فيما بعد"، قالت. وخلال ولاية غولدا أقيمت "كريات اربع".
مخلصا للروح التي رسمتها غولدا، طلب الوزير إسرائيل غليلي في نيسان 1972 "التوقف عن معالجة الموضوع في الصحف؛ لأن هذا الأمر يمكن أن يتسبب بالضرر". على الأجندة كانت في حينه إقامة "معاليه أدوميم" التي اعتبرها "موضوعا مهما ويثير الحماس". في ملف في الأرشيف كرس جميعه للمستوطنة تم فيه توثيق جهود الحكومة وجهات أخرى لإقامتها. في 1974، حتى قبل قرار الحكومة في هذا الشأن، ضغط مئير زورع، رئيس إدارة أراضي إسرائيل والجنرال السابق في الجيش وعضو الكنيست، على أمين صندوق الوكالة اليهودية، آريه دولتشن، من اجل نقل الميزانية لإقامتها. "الضخ للمستوطنة والحصول على التغطية بعد ذلك عندما أقوم بالمصادقة على الميزانية"، قال في النقاش. في ملاحظة داخلية كتبت في محضر المحادثة قال، "لقد تشاورت مع غليلي وقد نصحني بأن أقول لدولتشن، في الهاتف وليس خطيا، بأن يستمر في الاتفاق".
غضب وزير الإسكان في حينه، يهوشع رابينوفيتش، من ذلك في جلسة الحكومة وقال، "لا توجد لهذا الأمر ميزانية، يا سادة. وأنا لا اعرف كيف بدؤوا العمل قبل الجلوس معنا". حاول رئيس الحكومة في حينه، اسحق رابين، تهدئته وقال، "من اجل ذلك نحن نجلس الآن". ولكن رابينوفيتش صمم: "لا، يا سيدي، سيطلبون منك تفسيرا. كيف يحدث أنه في الوقت الذي لا توجد فيه ميزانية يذهبون إلى المنطقة ويقولون إن الموضوع معقد في الاستثمارات والتعهدات المتعلقة بأموال كثيرة. من الذي سمح بفعل ذلك؟". اتفق رابين معه في الرأي، ولكن أجمل، "ربما توجد إمكانية لفحص هذا الموضوع، لكني لا اقترح الدخول في هذا اليوم. أعرف انه ربما لا يتوافق هذا مع التعريفات المنظمة جدا، لكني مع تنفيذ أعمال البنى التحتية هذه".
بعد ذلك دفع غليلي وزورع قدما باعتبار المستوطنة "منطقة بتصنيف أ"، هكذا ستحصل على تسهيلات اكبر من الدولة. وقد اعترفا بأنه توجد "مشكلة كبيرة" حيث إن "معاليه أدوميم" توجد خلف الخط الأخضر ولذلك من غير المؤكد أن تستطيع أن تكون مشمولة في هذا التصنيف. في نهاية المطاف، هدأه غليلي وقال، إن حاييم بارليف، وزير الصناعة والتجارة (رئيس الأركان الأسابق) قد "رتب ذلك". "أستغرب كيف لا تفهمون بأن كل هذا الموضوع كان احد الوسائل الابداعية لتهدئة عملية يمكن أن تكون خطيرة جدا من ناحية داخلية في البلاد"، اقتبس غليلي في إحدى الوثائق. "أقول لكم، إذا لم يكن هناك أي تقدم في (معاليه أدوميم) فستكون لدينا هناك سبسطية بنسخة شعبية وعامة، مع ترسبات كبيرة جدا في المرارة" أضاف في تطرقه إلى "قضية سبسطية" التي أدت في 1975 إلى إقامة المستوطنات في "السامرة".

دولة فوضى
ملف آخر في الأرشيف وثق الطريقة التي تصرفت فيها حكومة رابين الأولى أمام المستوطنين الذين استوطنوا في سبسطية حتى قبل أن تأخذ الحكومة القرار حول موقفها بخصوص إقامة المستوطنات في "السامرة". بعض الوزراء في الحكومة قاموا بتشبيه الوضع بالوضع الذي وجدوا انفسهم فيه في أحداث "التلينا" عندما خاف رئيس الحكومة في حينه، بن غوريون، من أن "ايتسل" تنوي التمرد على الدولة الفتية، وأمر بقصف السفينة. "هذه محاولة تمرد... هذه التلينا وينقصنا كما يبدو بن غوريون"، قال وزير الصحة، فيكتور شمطوف. وأضاف وزير التعليم، أهارون يادلين، إن الأمر يتعلق باختبار قوة حكومة إسرائيل واختبار للدولة كدولة قانون ودولة أم دولة فوضى".
في نهاية المطاف، فاز المستوطنون. وحسب التسوية التي قاموا ببلورتها مع الحكومة، انتقلوا إلى موقع عسكري قريب، وبعد ذلك أقاموا مستوطنة ثابتة – "كدوميم"، التي أقيمت في فترة حكومة مناحيم بيغن، وهي تتفاخر بأنها رائدة الاستيطان في "يهودا" و"السامرة".
تشمل قاعدة البيانات، الآن، محاضر جلسات الحكومة فقط حتى صيف 1977، وجلسات اللجان الوزارية للاستيطان فقط حتى 1985. وجميع الجلسات التي تم عقدها خلال عشرات السنين منذ ذلك الحين لم يتم الكشف عنها. إضافة إلى ذلك غير متاح للجمهور أيضا الاطلاع على أغلبية المواد المحفوظة في أرشيف الجيش، والتي تتعلق بالمستوطنات. أيضا ملفات أرشيف الوكالة اليهودية المتعلقة بالمستوطنات ما زالت مغلقة أمام الجمهور.

عن "هآرتس"