«فاغنر» لا تليقُ بـ «روسيا»!

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 

حَبَسَ العالم أنفاسه لمدّة زادت على 24 ساعة، بعد أن أعلن زعيم منظمة "فاغنر" الروسية تمرّده على القيادة العسكرية الروسية، وخصوصاً وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو، ورئيس هيئة أركان الجيوش الروسية فاليري غراسيموف، متّهماً إيّاهما بمحاولات "الإطاحة" به، وإزاحته عن المسرح الميداني لعمليات القوات الروسية في أوكرانيا، وأعلن أن شويغو وغراسيموف أمرا المروحيات الروسية بقصف قواته في الخطوط الخلفية، وهو ما لم يثبت، أو تؤيّده مصادر مُحايدة.
ارتبك المشهد الروسي كلّه في ضوء الإعلانات الصاخبة والمُدوّية التي أطلّ بها مؤسّس المنظمة وزعيمها يفغيني بريغوجين، والتي وصلت به إلى حدود التهديد "بالاستيلاء" على موسكو، ومحاكمة خصومه في القيادة العسكرية الروسية، ومُكيلاً لهما أخطر الاتهامات بأقذع الألفاظ، وأكثرها فظاظة وإساءةً مُتعمّدة.
إلى هنا فقد حبس العالم أنفاسه فعلاً، إلى درجة أن الإرباك قد عمّ وشمل عواصم "الغرب" كلّه، ولم تتجرّأ أيّ عاصمةٍ أن تُعلّق ولا حتى كلمة رسمية واحدة إزاء ما جرى في تلك الساعات، فقد وصلت الحالة بدولة مثل الولايات المتحدة الأميركية أن تطلب من سفاراتها في دول العالم أجمع عدم التعليق قطعياً على الأحداث الروسية.
وباستثناء [خليّة الذّكاء المُفرِط] التي تقود أوكرانيا نحو الهاوية المُؤكّدة، والتي باتت في موضع التندُّر والسُّخرية حتى من وسائل الإعلام "الغربية"، فإنّ "الغرب" عُموماً "كبحَ" جِماح التهوّر لديه، وأظهرَ "رزانة" تُحسب له هذه المرّة، ويُحسد عليها بالمقارنة مع ما عهدناه من تهوُّر في قلب الحقائق وتزييفها.
صحيحٌ أنّ "الغرب" كان يشحذ أسلحته لاستثمار حالة الإرباك، أو لحظات الارتباك الروسي، وصحيحٌ أنّ هذا "الغرب" دخل في ما يُشبه "حُمّى" المشاورات، وتعطّلت لديه كلّ الأجندات والمواعيد والزيارات، وارتبك واهتزّ كلّ جدول أعماله، لكن تصريحاً واحداً لم يصدر عنه، بالرغم من أنّ وسائل الإعلام "الغربية" كلّها قد نقلت بالتفصيل وقائع هذه الحُمّى.
لا أظنّ أنّ "الغرب" قد أُصيب بخيبة أمل كالتي أُصيب بها، أوّل من أمس، عندما أعلن زعيم ومؤسس منظمة "فاغنر" نفسه، وبعظمة لسانه، تراجعه الكامل عن خططه التي كان قد صرّح بها قبل أقلّ من عدة ساعات فقط، وتحوّلت المسألة في غضون عدّة سُويعات فقط إلى قبوله باللجوء إلى "مينسك"، ومطالبته بضمانات قانونية لعدم محاكمته؟!
لا يُستغرب أبداً من اليوم فصاعداً أن تتمّ تسمية الصدمة التي تعرّض لها "الغرب" بصدمةٍ "فاغنر" أو حتى صدمة بريغوجين، بعد أن ترك هذا الأخير كل "الغرب" "يصرك أسنانه" غيظاً على "الفرصة" التي كانوا يتحيّنونها جميعاً، والتي كانت ستُعتبر بكلّ المقاييس قارب النجاة الوحيد من المأزق الذي خلقوه لأنفسهم بأنفسهم، ووجدوا أنفسهم في سعيره، ولم يعودوا يعرفون كيفية الخروج منه.
بل ولا يُستغرب أبداً أن يُطلق في مجال العلوم السياسية، والحقل الإستراتيجي العام على ما جرى مع "الغرب" من صدمةٍ صاعقة ما يُشبه بـ "متلازمة فاغنر"، أو "متلازمة بريغوجين".
الآن وبعد أن أوضحنا ــ على ما أظنّ ــ حجم الصدمة الصاعقة التي ألمّت بـ "الغرب"، علينا ــ كما أرى ــ أن نتحدّث بكلّ صراحة عن هذه المنظمة، وما تمثّله في الواقع الروسي، وما تُلحقه بالدولة الروسية من سوء السمعة والإساءة، وما تنطوي عليه من أخطار "كامنة" على الأمن القومي الروسي نفسه.
عندما أقرت السلطات الرسمية الروسية "مبدأ" أن يُعهد إلى شركات أمنٍ خاصة، بمهمات عسكرية وأمنية، فيها درجات عالية من الخطورة والحساسية، لأسبابٍ معيّنة، واعتباراتٍ محدّدة، لم تتوقع هذه الأوساط أن تتضخّم هذه "الظاهرة" وأن يصبح قوامها بالآلاف في البدايات، وبعشرات الآلاف كما وصلت إليه هذه المنظمة عشيّة إعلان "التمرّد" على القيادة العسكرية الروسية.
ومهما كانت "الخدمات" التي تقدمها "فاغنر" مهمّة وكبيرة لجهة بعض أنواع المهمّات العسكرية، وخاصة حرب المدن والشوارع، وحيث تتخصّص هذه المنظمة بهذا النوع من القتال، ومهما كانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تتطلّب وجود مثل هذه "القوّات الخاصة" في مساندة الجيش قبل اقتحام التحصينات المنيعة والتي كانت تتحصّن بها القوات الأوكرانية، كما جرى في ماريوبول وباخموت فإنّ وجود مثل هذه القوات، وبهذه الأعداد، وفي ظلّ وجود قيادة نافذة ومتنفّذة، كما هي قيادة بريغوجين يظلّ خطراً على الداخل الروسي، خصوصاً وأنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه، كان على علاقة وثيقة بزعيم هذه المنظمة، وكان هذا الأخير "يستظلّ" بالرئيس بوتين، ويرى في نفسه على نفس الدرجة من الأهمية والمكانة لما يتمتّع به وزير الدفاع، ورئيس الأركان، بل وكان يشعر بأن مكانته لا تقلّ أهمية عن مكانة رمضان قديروف رئيس الشيشان، وأن قواته ليست أقل شأناً من قوات "أحمد" الشيشانية التي كان يستقدمها الجيش الروسي لمهمّات الاقتحام المعقّدة.
واضحٌ من خلال تسلسل الأحداث أنّ القيادة العسكرية الروسية ضاقت ذرعاً بالطريقة التي كان يتصرّف بها بريغوجين، و"بالاستظلال" الذي كان يتمتّع به، وبعمليات جمع الأموال، وتكديس الثروة التي حصلها بوسائل في أغلب الظنّ ليست شرعية، وعلى هامش عملياته العسكرية.
بل والأوضح هو أنّ القيادة العسكرية الروسية قد منعت عنه التزوّد ببعض أنواع الأسلحة، وهي أسلحة "حسّاسة" على ما يبدو، وبدأت بتضييق الخناق عليه في الأشهر الأخيرة.
ولا يخفى على أحد أنّ القيادة العسكرية الروسية قد أطلعت الرئيس بوتين على بعض "الحقائق" الخاصة بهذه المنظمة، وخطر "التسلّل" "الغربي" من تحت عباءة زعيمها لإحداث اختراقات أمنية كبيرة في الواقع الروسي.
ما زالت المعلومات على هذا الصعيد شحيحة، وستظلّ شحيحة ــ كما أرى ــ وذلك نظراً لطابعها الاستخباري الخاص، ونظراً لما تمثّله من تصنيف في دائرة "السرّي" و"السرّي للغاية".
لكن الأمر ينطوي على بعض المؤشّرات والدّلالات بالرغم من شُحّة المعلومات.
تلكُّؤ بوتين ــ في رأيي ــ كان مقصوداً، فهو لم يرغب بأن يظهر بالصورة من بدايتها، وانتظر إلى حين استكمال المشاورات الاستخبارية بين موسكو ومينسك، وبعد أن "تحرّكت" قوات "فاغنر" باتجاه مدينة روستوف، واتّجهت بعض القوات إلى طريق موسكو، خرج وأعلن أنّ الظاهرة خيانية، وطلب من النيابة العامة توجيه التهمة إلى زعيم المنظمة بالتمرّد، وتهديد الأمن القومي.
في هذه اللحظة لم تستجب سوى فئة قليلة نسبياً من "فاغنر" للتمرّد، وفهم زعيمها أنّ الخطّة فشلت، وأنّ بقاءه حيّاً، هو ومن معه بات المسألة الأهمّ.
هنا أعلن رئيس روسيا البيضاء مبادرته، والتي قبل بها بريغوجين على الفور تحت مسمّى "حقن الدماء".
دليلي على ذلك هو ما صرّح به دميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي مباشرة، بأنّ الظاهرة خطيرة على الأمن القومي الروسي، وذهب أبعد من ذلك عندما قال إنّ الأسلحة النووية لا تُسلّم "للسجناء". في محاولةٍ للإيحاء بأنّ مطالب بريغوجين بالتسلُّح بالأسلحة الحسّاسة كان أكيداً وثابتاً.
كما أن قديروف لم يكن ليحرّك قواته فوراً نحو مدينة روستوف لولا الضوء الأخضر من بوتين، تماماً كما كان نفس هذا الضوء قد أُعطي لميدفيديف.
في كلّ الأحوال ومُطلقها فإنّ ظاهرة "فاغنر" لم تعد تليق بدولةٍ بمكانة وقامة روسيا، وهي في الواقع قنبلة موقوتة شديدة الانفجار، لن تنتهي تبعاتها عند الحدود التي تبدو وكأنّها انتهت إليها.
ولسان حال الواقع يقول: "ليس في كلّ مرّة تسلم الجرّة".