بقلم أ.ماهر كامل شبير
﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾
الحمد لله رب العالمين، المتفضل علينا بنعمة العلم والدين، في كل وقتٍ وحين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، إمام النبيين، وقدوة العالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الأخوة الكرام .. الأخوات الكريمات .. أبناء الوطن الأعزاء:
إن كلمة الاعتذار عظيمة وسامية في معانيها، وهي تعالج النفس البشرية، وتداوي الجراح بمجرد قولها وسماعها، وأنه لا يعرفها إلا الأقوياء فقط، فالضعفاء لا يعتذرون أبداًً، ويرى البعض أن رفضها واحتقارها والتعنت والمكابرة في نطقها يجعل الآلام الإنسانية فوق الاحتمال، ويدفع بتراكم الاحقاد والشرور، فتتفاقم المشاكل في المجتمعات.
وهناك أسئلة كثير تجول في خواطرنا قبل أن نعتذر عن الخطأ بحق الأخرين ومنها، هل أنا مخطأ بحق الأخر؟ هل يستحق الاعتذار له؟ مين هو لأعتذر له؟ أنا لست مخطأ؟ والكثير الكثير من الأسئلة التي يتملكنا بها الشيطان، فيقول الله وتعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) البقرة آية 34
وهنا يأتي تعريفنا للاعتذار، بأنه إبداء التأثر لحصول تقصير أو خطأ أو سوء فهم مقصود أو غير مقصود اتجاه الأخرين، فالاعتذار يعتبر شجاعة وقوة للشخصية وتواضع ودليل على نقاء القلب وصلاح للسريرة وصفاء للنفس وطهارة للروح، وهو دلالة للقوة والمسؤولية اتجاه الأخرين، والاعتذار نوع من أنواع العفو والصفح عن الأخر، فهو طلب للعفو الذي ندب الله إليه بقوله تعالى ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ سورة الأعراف 119
وهنا نحاول تحديد أنواع ثقافة الاعتذار لدى الناس وهي تتمثل في:
الاعتذار السريع، وهو مراجعة النفس مباشرة عند وقوع الخطأ الغير مقصود أو السلوك السلبي عند حالة الغضب.
الاعتذار بعد مراجعة النفس، وهو ما يأتي متأخراًً نوعاً ًما، بعد أن يقضي المخطئ حالة مراجعة تامة للموقف حيث ينتابه حالة تأنيب للضمير فيبدى اعتذاراً ًرسمياًً أو يصطنع موقفاًً غير مباشر ليبين رغبته في تصحيح سلوكه الخاطئ اتجاه الأخرين.
المكابر، وهو ما نعانيه في بعض مجتمعاتنا ، وهنا يكون الشخص مدرك تماماًً لحجم أخطاءه، لكنه يكابر ويمتنع عن الاعتذار ويطالب الأخرين أن تتقبله كما هو.
الاعتذار ثقافة وفقه وأدب وفن ، وثقافة تصف عمق الخلق الذي يتجاهله الكثيرون، وصفة يندر من يتحلى بها، ومعانٍ عميقة تحتاج إلى وعي وفهم كبير، فما أروع الحياةَ بوجوده وبمعانيه السامية والكبيرة، وهو فقه يحتاج إلى تعلم، إذ لا يعرفه إلا الإنسان السوي والمدرك لمعانيه السامية ، وما تتركه من أثر طيب في النفوس البشرية، وهو أدب اجتماعي في التعامل الإسلامي والعرف بين الناس، يَنفي شعور الكبرياء والغرور، ويطرح من القلوب الحقد والبغضاء، ويدفع عنك الاعتراض عليك، وإساءة الظن والافتراء، وهو فن يحتاج إلى إجادة ، لأنه يحث على تحسين العلاقات وتطوير الذات بين الناس.
وأيضاًً فن له قواعد متعددة، فليس مجرد لطافة، بل هو أسلوب حكيم وتصرف رشيد، ومهارة من مهارات الاتصال والتواصل الاجتماعي، ويتكون من ثلاث نقاط أساسيه وهي:
الشعور بالندم عما صدر من تصرفات مجانبة للصواب دون مبرر.
تحمل المسؤولية الكاملة.
الرغبة الأكيدة في إصلاح الموقف.
وللاعتذار أصول وقواعد مهمة ومنها :
تحين الوقت المناسب للاعتذار، وهو عنصر التوقيت وحسن اختياره، وهو أول خطوة في فكرة الاعتذار، فمن الضروري اختيار الوقت المناسب للاعتذار لمن أخطأنا بحقه، والتفكير في الطريقة التي تناسب الاعتذار بما يتماشى مع شخصية الطرف الذي وقع الخطأ في حقه.
التفكير في أمر الاعتذار، بتحديد أسلوبه قبل عرضه، فالتفكير العميق يفسح المجال لتقديم عرض عقلاني ومقبول له.
تحديد موضوع الخلاف بعناية، لا سيما وإن جاء الاعتذار بعد مدة من الزمن، حاول أن لا تتهرب منه بالتناسي.
الاعتماد على التعابير الملطفة والإشارات العفوية التي تنم جميعها عن مشاعرك الصادقة في اعتذارك.
تفضيل عدم الاستعانة بشخص ثالث لتسوية الخلاف، ينصح بأن يظل قاصراًً على الطرفين المتخاصمين.
وللاعتذار فوائد متعددة ومنها:
الاعتذار يساعد في التغلب على احتقار الذات وتأنيب الضمير.
الاعتذار يعيد الاحترام للذين أسأنا إليهم و يجردهم من الشعور بالغضب.
الاعتذار يفتح باب التواصل المغلق بفعل الغرور.
الاعتذار شفاء للجراح والقلوب المحطمة.
الاعتذار سبب النجاح بأن يكبر صاحبه في أعين الناس ويزيد حبهم له بصدقه.
وهنا نذكر أحبابنا الكرام ببعض الأسباب التي تدفع الشخص لعدم الاعتذار للأخر وهي:
التنشئة الاجتماعية ورفض فكرة الاعتذار عموماًً، فالطفل ينشأ ولم يتعود على الاعتذار كفضيلة فهو لا يرى تطبيق عملي لهذه الفضيلة من والدية .
النظر إلى الاعتذار على أنه ضعف للشخصية، أو أنه سلوك لا ينتج عنه سوى إهدار الكرامة والتقليل من شأنها.
الجهل بفضيلة الاعتذار، وأنها من مكارم الأخلاق.
وجود صفة اللامبالاة لدى الشخص المخطئ.
الظن بأن الاعتذار أمر غير ضروري.
التأثر بعادات الآخرين و البيئة المحيطة في إهمال الاعتذار.
خوف الشخص المخطئ من الحرج، أو التأنيب والسخرية أو ربما معاقبة الآخرين له.
كثرة الأخطاء وتكرارها تولّد التعود عليها.
عدم إحساسه بحالة الأخر الذي أخطأ في حقه، ولم يعتذر له.
وصدق الشاعر: كل أحمق يستطيع الدفاع عن أخطائه أما أن تعترف بأخطائك فهذا هو سبيلك إلى الارتفاع فوق درجات الناس وإلى الإحساس بالرقي والسمو.
ويجب علينا أن نتعلم ونتدرب على ثقافة الاعتذار للأخرين، حيث أن كثيراًً ما يراودنا سؤال هل نعتذر للأخر وكيف نعتذر له ؟؟
بالتدريب والممارسة عليها، فليس بعيب أن يسامح الإنسان أخاه ، ويعتذر إليه إذا أخطأ في حقه بأي كلمة اعتذار بلطف واحترام، وهذا من صميم الدين الحنيف.
بالتمعن وقراءة سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والنظر في كرم أخلاقه وتعامله مع الأخرين.
بالتمعن وقراءة سير السلف من الصحابة ومن بعدهم .
بالتركيز على مواضيع تربوية متعلقة بهذا الأمر كالتواضع وحسن الخلق والإحسان إلى الناس والبر والحلم.
بتوطين النفس وتهيئتها لتمثل هذا الخلق الكريم وكسر حاجز العجب وقمع باب الكبر وإن كان خفياًً.
وفي ختام مقالي ، يأتي دور الدولة في احتضان المجتمع وزرع شمائل الحب والتسامح والانسجام فيه بديلاًً عن الكراهية والاحقاد والانقسام البغيض الواقع في بلادنا.
ونحن كأبناء للوطن العزيز، نطالب كافة المسؤولين والساسة ورجالات المقاومة والكتاب والمثقفون الفلسطينيون أن يعملون بمبدأ ثقافة الاعتراف ومداواة جروح نفسية سيكولوجية أصابتهم ومعالجة إشكاليات المجتمع مهما بلغت حدتها، وعندما يسلكها المسؤول فإنه يعكس صحة المجتمع ونضجه ورقيه في التعامل مع القضايا الوطنية المختلفة، لذلك فإنه من الضروري للمسؤولين أن يدركون أن المواطن الفلسطيني يميز بين الاعتذار الصادق الذي يعكس درجة كبيرة من الوعي والمسؤولية والقدرة على الاعتراف بارتكابه الأخطاء، والاعتذار المزيف الذي لا هدف منه إلا البحث عن طريق للخروج من المأزق والنجاة من العقاب.
وهناك من المسؤولين من يقبل ثقافة الاعتذار، وهناك من لم يقبلها، أو حتى يتقبلها، وهناك من يسعى إلى أن تكون احياءً لبعض القيم والاعتبارات التي عرفتها مجتمعاتنا الإسلامية، وهناك من يرفضها معتبراًً اياها ثقافة مستوردة من الحضارة الغربية، وهناك من يؤمن بنزعة التسامح والعفو عما مضى من أجل أهداف تحفظ وحدة المجتمع ونقاء الانسان وحب الاخر.
إن ثقافة الاعتذار التي تنبثق عن نزعة التسامح لا يمكن أن يحتكرها أي إنسان، بل أنها معبرة عن مجموعة خصال وسلوكيات وتربويات. ومع أن الاعتذار بهذا المعنى الجميل، فالأجمل منه الحذر من الوقوع فيما يضطرك للاعتذار، وعلم إن لم تكن لديك الشجاعة الكافية للاعتذار عن الخطأ، فاعمل جاهداًً على ألا تحتاج إليه، فالحكمة تقول: إذا كان الاعتذار ثقيلاً على نفسك فالإساءة ثقيلة على نفوس الآخرين أيضاً.