في هذه الأيام، يستعرض جيش الاحتلال الإسرائيلي سلاحه الأحدث في حربه العدوانية ضد مخيم جنين ومجموعاته المقاومة التي لا تملك غير الأسلحة الفردية المتواضعة. من يتابع بيانات جيش الاحتلال يعتقد أن حربا تدور رحاها بين جيشين متكافئين.
واقعيا، منذ احتلال العام 67 لم تكن الأراضي الفلسطينية خارج القبضة الأمنية الإسرائيلية، التي دائما تقود إلى الانفجار بأشكال متنوعة ومتباينة القوة. ومؤخرا، قادت القبضة الأمنية المتوحشة إلى مقاومة فردية سرعان ما تطورت إلى مقاومة مجموعات.
منذ بداية عهد الاستعمار القديم وبمفهوم علم الاجتماع ساد ما يشبه قانونا يقول، إن احتلال وطن الغير والسيطرة على شعبه وعلى موارده يقود إلى الثورة والمقاومة ضد المحتلين والمستعمرين، ومن المنطقي أن ينطبق هذا القانون على الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي. ومن الطبيعي أيضا أن يستفحل التناقض بين قطبي الصراع بصرف النظر عن ميزان القوى ونتيجة العدوان اليومي الذي يتوج في كل فترة زمنية إلى عدوان غاشم كعدوان اليوم (امس)، على مخيم جنين. إنها متوالية مستمرة لا تنتهي إلا بحل هذا التناقض عبر حل سياسي يزيل الظلم والقهر والاحتلال.
قال أنطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة، إن التوسع الاستيطاني المستمر يؤجج العنف بشكل كبير ويزيد من خطر المواجهة، ويزيد من ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ويقوض حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
وقد استند غوتيريس إلى بيان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، الذي رصد 570 هجوما للمستوطنين ضد المواطنين الفلسطينيين خلال النصف الأول من العام الجاري. هجمات أوقعت إصابات جسدية أودت إحداها إلى موت شاب فلسطيني. وتعقب صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية على تقرير الأمين العام بالقول، ظاهرة عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين أوسع بكثير مما تم التعبير عنه في الإحصائيات الموجودة وأوسع بكثير من المدون في الصحافة الإسرائيلية. وتضيف، إن هدف الاعتداءات هو الاستيلاء على الأراضي الخاصة والعامة بوتيرة أسرع مما تسمح به إجراءات وقرارات حكومة نتنياهو. حقيقة الأمر أن العنف السياسي الذي تمارسه حكومة المستوطنين الكهانية أشد من العنف الذي يزاوله المستوطنون على الأرض، فالوزير سموتريتش دعا إلى محو قرية حوارة، والوزير بن غفير دعا إلى السيطرة على كل تلال الضفة ورئيس الحكومة نتنياهو قال، يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة دولة فلسطينية وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة لهم. وكل أقطاب المؤسسة الإسرائيلية ومن ضمنها المعارضة، تتجاهل الحل السياسي ولا تعترف بانطباق القانون الدولي على الأراضي الفلسطينية ولا تعترف بقرارات الشرعية الدولية، وتمارس عهرا سياسيا بإبرامها اتفاقات ومعاهدات «سلام» مع اربع دول عربية خارج حدود الصراع، وتبذل قصارى جهدها لإبرام اتفاق جديد مع المملكة السعودية في الوقت الذي ترفض فيه مجرد البحث عن حل سياسي لصراع محتدم على الأرض، والتعامل مع القضية الفلسطينية برمتها كقضية غير قابلة للحل. والسبب في ذلك يعود لأطماعها الاستعمارية وحرصها المحموم على مواصلة نهب الموارد الفلسطينية وإخضاع الشعب الفلسطيني في السياق الاستعماري، وإذابته داخل وخارج فلسطين.
ويجري تحوير المطامع والأهداف الإسرائيلية، وبناء شبه إجماع إسرائيلي من خلال تقديم حرب ضم الضفة الغربية راهنا بالتزامن مع تعبئتها بالمستوطنين، للحيلولة دون تحويلها إلى قاعدة عمليات إيرانية متقدمة. يقول إيلان بوميرانك في الـ»جروزاليم بوست» يوم 3/7، الوجود المدني الإسرائيلي في يهودا والسامرة بالإضافة إلى كونه حقا تاريخيا وطبيعيا، هو أمر حاسم في منع تحول المنطقة إلى قاعدة عمليات إيرانية متقدمة. هذا الحق التاريخي والطبيعي المزعوم يستند فقط إلى هرطقة مفادها أن إسرائيل لديها صك ملكية إلهي لفلسطين غير قابل للنقاش، وهو بديل عن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها. ويرى كاتب المقال أن القاعدة الإيرانية في الضفة ستقوض إسرائيل من الداخل إذا ما تكاملت مع هجوم الخارج. ويضيف، إن هدف ايران خلق حلقة نيران متكاملة ومنسقة للغاية. لذا فإن الرد العسكري الإسرائيلي في جنين لا بد وأن يترافق مع البناء والإسكان الاستيطاني في الضفة، ومع إعلان السيادة الإسرائيلية الرسمية على غور الأردن، ولاحقا على مناطق في الضفة.
في وقت سابق، كانت دولة الاحتلال تبرر امتناعها عن التوصل إلى حل ينهي الاحتلال، بأن «حماس» ستكرر ما فعلته من سيطرة على قطاع غزة بسيطرة على الضفة وما يترتب على ذلك من تهديد الأمن الإسرائيلي في العمق. وهي الآن تبرر عدوانها على مخيم جنين بأن السلطة فقدت سيطرتها. مستخدمة تكتيكا لا يخلو من دهاء، فهي تعلم جيدا أنها عندما تقوض العملية السياسية فإنها تُفقد السلطة مبرر وجودها لدى أكثرية الشعب الفلسطيني، وعندما تُجرّد السلطة من أبسط صلاحياتها وتُخضعها لحصار وعقوبات وقرصنة مالية ويعلن نتنياهو في الوقت نفسه أن حكومته معنية ببقاء السلطة ومساعدتها، فإنها بذلك تُطلق رصاصة الرحمة عليها. الشيء نفسه ينطبق على الظاهرة المسلحة التي تغاضت سلطات الاحتلال عنها بشكل وبآخر مع امتلاكها للسلاح على أمل استخدامه في النزاعات الداخلية الفلسطينية وفي نشوء مراكز قوى، وعندما استخدم السلاح ضد الاحتلال والاستيطان انبرت المؤسسة الأمنية للتخطيط لنزعه بالقوة عبر الاقتحامات والاعتقالات وأعمال القتل اليومي وعندما أخفقت في ذلك أطلقت العملية المسلحة باسم «المنزل والحديقة» المصطلح الذي يجسد مفهوم الاستحواذ الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية. إزاء ذلك، يعلم أي مواطن عادي أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تستطيع إعادة احتلال الأراضي الفلسطينية المحتلة أصلا، وتملك من التقنيات العسكرية ما يقلل من خسائرها إلى أقل القليل، ما لم تحدث مفاجآت. ويعرف كثيرون في أوساط النخبة السياسية والثقافية الفلسطينية أن المواجهة المسلحة مع خصم ضعيف لا يملك إلا النزر القليل من السلاح هي لعبة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية المفضلة، كونها تتمتع بقدرة فائقة على التدمير والقتل والاعتقال والحصار والخنق. وفي الوقت الذي تتقن فيه المؤسسة الإسرائيلية فن الاستدراج والتوريط، تتكرر الأخطاء الفلسطينية مخلفة معها خسائر غير اضطرارية. يجوز القول، إن المرجعيات الداعمة للمقاومة الفلسطينية والقادرة على اكتشاف الشراك الإسرائيلية لا تكترث بمدى الخسارة الفلسطينية، لطالما أنها تتعامل مع المقاومة كورقة ضاغطة من أجل أهداف ليس من بينها إنهاء الاحتلال ورفع المعاناة عن شعب يناضل من أجل حريته، وليس من بينها حرمان دولة الاحتلال من مبررات جعل هذه القضية غير قابلة للحل. في كل مرة توفر شجاعة المقاتلين واستبسالهم في التصدي للعدوان الغطاء لتكرار المشهد المأساوي، فإلى متى؟ وألم يحن الوقت للخروج الفلسطيني من قواعد اللعب الإسرائيلي والإقليمي بالورقة الفلسطينية مع التفاوت في خطر كل واحد منهما.