لكل مؤسسة سياسية بصمتها الخاصة وعقدتها ودوافعها ومحركاتها، وهي خليط من المصالح والقناعات والهواجس التي تغذيها تقارير الأمن التي يرتفع فيها عادة منسوب الأدرينالين ولا يمكن دوما تفسير القرارات بنموذجية، فقد كشف كثير من المذكرات ما يكفي من الفضائح لكن بعد فوات الأوان بعد أن أسدل الستار على حقب تاريخية كانت عالية الكلفة.
حكومة إسرائيل الأخيرة ربما أراحت المحللين والمتابعين من البحث عن كلمة السر فيها، فهي شديدة الوضوح لا تناور ولا تخفي قراراتها خلف حملات العلاقات العامة كما يفعل الكثير من الحكومات.
وحين ينبغي معرفة محركات هذه الحكومة لا بد من رصد مسألتين هما الأبرز في دوافعها وتقف خلف معظم قراراتها إن لم يكن جميعها.
الأولى هي القوة الهائلة التي تمتع بها بتسلئيل سموتريتش بعد نتائج الانتخابات وخصوصية الائتلاف الحكومي وبرنامجه الذي أعلن العام 2018، لذلك قاتل من أجل الحصول على ثلث وزارة الدفاع ليتولى المسؤولية المدنية عن الضفة الغربية، وفي هذا ما يشي بضم بشكل مباشر بما يتوافق مع فكره السياسي باعتبارها «أرض التوراة «وأن الفلسطينيين غرباء فيها.
أما المسألة الثانية التي تقف خلف القرارات فهي الملاحقات القضائية لرئيس وزرائها بنيامين نتنياهو والذي يفعل كل شيء من أجل استمرار هذه الحكومة، وحينها يصبح سموتريتش وبرنامجه في الائتلاف هو السياسة الأكثر اعتماداً بصرف النظر عن التكلفة السياسية والعلاقات الدولية التي ينظر لها رئيس حزب الصهيونية الدينية بازدراء شديد مكملا طريقه غير آبه بالصوت الخافت المنبعث من العواصم الكبرى، بما فيها واشنطن التي ترتفع شكواها المستضعفة من الاستيطان.
وفي قرارات الحكومة تفوح رائحة الملاحقات القضائية لنتنياهو سواء الداخلية الإسرائيلية أو العسكرية أو السياسية وقد بلغت حدا بات يجر إسرائيل الداخل والمنطقة نحو زوايا مظلمة ودامية وبضمنها قرار الهجوم على جنين وهي ما سماها الصحافي أوري مسغاف في جريدة هآرتس ساخرا بـ «عملية حارس مطار بن غوريون» أي أنها نفذت بالدرجة الأولى ضد المتظاهرين على طريق المطار ولصناعة سحب من الدخان للتغطية على شهادة المليونير ميلشين في برايتون ضد نتنياهو في محكمة الفساد مقترحا اسما آخر مثلا «جرف برايتون» وهي المدينة البريطانية الجنوبية التي قدم فيها ميلشين شهادته مستعيرا الاسم من عملية «الجرف الصامد» التي شنتها إسرائيل عام 2014 على غزة.
لم ينشر الجيش الإسرائيلي صوراً لترسانات الأسلحة التي تحدث عنها. كل ما صدر صورة حفر في مسجد ليس أكثر، ولم يستعرض قتل المطلوبين ولا اعتقالهم ولا تنظيف المخيم بما لا يتناسب مع الحملة الإعلامية التي صاحبت العملية بدءا من الحديث عن احتياطات السرية المطلقة من خلف الكابينيت خوفا من التسريب وصولا للصورة النهائية التي يلتقطها نتنياهو قرب ميدان المعركة.
لكن كل ما يحدث لا يتعارض مع الفكر السياسي لأعضاء الحكومة الذين يتوزعون ما بين قومي وديني يجمع كلاهما على ضم الضفة الغربية، وأبرزهم نتنياهو الذي كشف عن حلمه قبل أكثر من ثلاث سنوات من خلال صفقة القرن التي دفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليتكفل بالإعلان عنها، ولكن ارتباطا بمتغيرات الواقع طرأ تطور مهم يجب التوقف أمامه بعمق.
هذا التطور تجسد بتصريح نتنياهو الذي يمثل تراجعا حتى عن صفقة القرن بأن «على الفلسطينيين نسيان فكرة الدولة الفلسطينية ....وأن بقاء السلطة ضروري ولا نريد إضعافها». طبعا وبالتأكيد فإن سلوك إسرائيل في الضفة يؤدي لإضعاف السلطة لتنتهي من تلقاء نفسها بالتدريج وليس بضربة واحدة تترك بصمة إسرائيلية أمام العالم الذي لا يزال يرى في السلطة مكونا من مكونات الاستقرار.
لكن ذلك يجب أن يضيء الأضواء الحمر لدى السلطة كمؤسسة بات يرسم لها الإسرائيلي دورا وظيفيا يتعارض مع دورها الوطني وحاجة الفلسطينيين لها، وهو الدور الوظيفي الذي قاتله الفلسطينيون ومنظمة التحرير في سبعينيات القرن الماضي باعتباره دورا مساندا لاستمرار حكم شعب آخر وذراعا لتخليد الاحتلال.
هذا التطور يضع السلطة الفلسطينية في مأزق شديد الوضوح حيث بدت بين خيارين أحلاهما مر فإما أن تنتهي وتنحل ويسهل حينها ضم الضفة أو تستمر بمهمة تفرضها الضرورة الإسرائيلية. وفي كلا الخيارين ما يعكس الأزمة الفلسطينية المتدحرجة التي تصل إلى لحظة حرجة تنغلق أمامها الخيارات من سلطة تفاوض بجدية في سنواتها الأولى على الحل وإقامة الدولة إلى سلطة تفاوض بيأس وتقوم بتحمل مسؤولية السكان انزلاقا لسلطة تؤدي دورا وظيفيا إداريا دون أي مضمون سياسي أو أمل سياسي يشيع جثمانه تصريح نتنياهو وواقع الحكومة الإسرائيلية.
وما حدث مع حركة فتح يحدث مع حركة حماس مع فرادة كل منطقة وخصوصيتها وأيضا وفقا للمشروع الإسرائيلي، فقد تسلمت الأخيرة حكم السكان في غزة لتتكفل بالقيام بالدور الإداري مستحيل النجاح في ظل تحكم الاحتلال بالمصادر والمعابر لتبدو الحالة الفلسطينية تنزلق وباتت تخضع بكليتها لابتزاز المقايضة باتجاهات خارج مسار العلاقة بين الاحتلال وشعب محتل، وباتت تدور في مدار آخر في غلاف الاحتلال وهو ما لا يتناسب مع مشروع التحرر الوطني، وحين تنغلق الخيارات ويتبدى المأزق بهذا القدر لا بد من تفكير مختلف.