تكاد الساحة السياسية والحزبية لا تهدأ على خلفية توجه حكومة الائتلاف الفاشي الحاكم في إسرائيل نحو إضعاف السلطة القضائية وإلغاء آليات الرقابة الداخلية والتوازن بين السلطات . على هذه الخلفية دخلت اسرائيل منذ أشهر في احتجاجات هي الأضخم في تاريخها ، وهي احتجاجات تستثني من أجندة القائمين عليها كل ما يتعلق بسياسة وممارسة سلطات الاحتلال في الضفة الغربية ، فالديمقراطية في اسرائيل ديمقراطية تتفوق على غيرها من الديمقراطيات بقوانين أساس وظيفتها ضمان تفوق اليهود في الحقوق على غير اليهود . ديمقراطيتهم يمكن أن تسير جنبا الى جنب مع الاحتلال والقمع وهدم البيوت والمنشآت والتمييز والفصل العنصري وحتى التطهير العرقي ، فلا علاقة لكل هذا بالديمقراطية ، لأن اسرائيل رفعت تفوق اليهود على غير اليهود في البلاد الى مستوى من القداسة ، التي يجب التسليم بها والاستسلام لها . وعلى كل حال فإن الأمر لا يقف عند حدود الاحتجاجات الداخلية ، فإلى جانبها تواجه اسرائيل ردود أفعال دولية واسعة ، يدعي المعنيون بها والقائمون عليها أن اسرائيل تسير في اتجاه يبعدها عن " القيم المشتركة " ، التي جمعت على حد زعمها إسرائيل مع الديمقراطيات الغربية .
أحزاب اليمين المتطرف التي جاءت الى الحكم بعد الانتخابات الأخيرة للكنيست ، التي جرت في نوفمبر من العام الماضي تتوجه لاعتبارات تتباين أحيانا وتتقاطع في أخرى الى تعديل قوانين الأساس الحكومية التي تعتبر أشبه بالدستور ، بشكل يتيح لها مثلا أن تعين في الحكومة وزيراً ادانته المحكمة بقضايا فساد ، أو تعيين وزير في وزارة الجيش يتولى سلطات مدنية تنظم أوجه الحياة في مناطق تحتلها اسرائيل منذ العام 1967 ، بعد أن كانت في السابق خصرا من اختصاص الجيش . هذا ليس تغييرا للصلاحيات في الشكل ، بل مؤشر على توجه يرقى الى مستوى إعلان ضم هذه المناطق المحتلة ( الضفة الغربية ) او مساحات واسعة منها ، في انتهاك واضح لميثاق الأمم المتحدة ، الذي يحظر ذلك باعتباره يحول الاحتلال من حالة مؤقتة الى احتلال دائم بكل ما يرتبط بذلك من موقع اسرائيل من القانون الدولي .
هذه المزاوجة للسلطة في المناطق المحتلة بين سلطة عسكرية يقودها وزير الجيش وأخرى مدنية يشرف عليها ويوجه أعمالها وزير مدني في نفس الوزارة تعني بوضوح أن اسرائيل انتقلت من ميدان المناورة الى ميدان العمل على المكشوف والحسم بكل ما يترتب على ذلك من سياسات تؤثر على سير الحياة اليومية لمجموعتين من السكان ، الأولى سكان البلاد الأصليين أي الفلسطينيين والثانية سكانها الجدد ، أو المستوطنون الغزاة . سكان المستوطنات لهم وزيرهم في وزارة الجيش والسكان الفلسطينيون يخضعون لسلطة عسكرية يتولاها وزير الجيش . ومع تطور كهذا يستطيع الوزير المدني في وزارة الجيش أن يقرر دون عناء بأن مكانة المستوطنين تتفوق على مكانة الفلسطينيين تحت الاحتلال ، ليس على المستوى القانوني فحسب ، بل وعلى كل المستويات ، التي تتصل بالحياة اليومية . الوزير المدني في وزارة الجيش معزز بصلاحيات تتيح له على سبيل المثال لا الحصر تحديد استخدامات الأراضي ، والسيطرة على الطاقة وترددات الاتصالات. وإليه تعود صلاحية تقرير التجمعات التي يسمح لها بناء منازل ومدارس وبنى عامة جديدة ، وأي التجمعات محرومة من ذلك بل معرضة لهدم منازلها ومدارسها ومنشآتها وبناها التحتية الأساسية . هذا الوزير المدني في وزارة الجيش قادر بما خولته الاتفاقيات الائتلافية لتشكيل الحكومة أن يمس بصورة جوهرية بمستوى حياة ومعيشة الفلسطينيين في المنطقة التي تخضع إداريا وأمنيا لسلطة الاحتلال في الضفة الغربية ، والذين يقدر عددهم بنحو 200 إلى 300 ألف نسمة. هو قادر ، كما كانت السلطة العسكرية سابقا منع إصدار تراخيص لبناء المنازل ، وقادر على هدم آبار المياه وتدمير المدارس بل والتهجير والتطهير العرقي بوسائل ناعمة وأخرى خشنة استنادا لمستوى اللهب ، الذي يشعله المستوطنين بضوء أخضر منه أو من وكلائه وحلفائه في مجالس المستوطنات .
يعرف كل متابع للأوضاع في الضفة الغربية بما فيها القدس أن إسرائيل تشق طريقها باتجاه ضم أوسع مساحة ممكنة من الأرض في الضفة الغربية بأقل عدد ممكن من السكان منذ عقود ، وإن بطرق مضمرة وغير معلنة. ولهذا الغرض أرست أسس نظامين قضائيين منفصلين وغير متساويين في المنطقة ، فوضعت الفلسطينيين تحت القانون العسكري ، في محاولة لتصوير السيطرة الإسرائيلية على أنها مؤقتة . وفي الوقت نفسه تعاظم اعتمادها القوانين المدنية على المواطنين اليهود من أجل استقطاب أكبر عدد من المستوطنين ، وترسيخ وجودهم في الأراضي المحتلة . وفي الحقيقة ، لم يحكم جيش الاحتلال وحده الفلسطينيين أبداً ، بل خلقت إسرائيل صورة نظام احتلال منفصل عن الدولة - على سبيل الخداع ، إذ إن الحد الفاصل بين الحكم المدني والعسكري في الضفة الغربية غير واضح المعالم منذ عام 1967. كان ذلك منذ البداية حين أقر الكنيست أول قانون ينص على تطبيق القانون الجنائي الإسرائيلي على " مواطني البلاد " في الضفة الغربية
ولكن ، لماذا نقلت حكومة الاحتلال السيطرة على الضفة الغربية إلى سلطة مدنية تعمل جنبا الى جنب مع سلطة الجيش في هذا التوقيت . لا شك ان إسرائيل استفادت من الغموض جيداً على مدى العقود وكان في استطاعة حكومتها أن تواصل العمل في الضفة الغربية في ظل ذلك الغموض ، وهو غموض معد للتصدير للخارج . لكن القوى الفاشية في حكومة الائتلاف الحالية أسكرها الفوز بغالبية برلمانية في نوفمبر 2022 ، فوجدت نفسها أمام فرصة ، وهي فرصة قد لا تتكرر . هذه القوى مصابة بهوس السيادة اليهودية والتفوق اليهودي ، وترى في إضعاف السلطة القضائية ، من بين شؤون أخرى ، هامة بكل تأكيد ، وسيلة لإزالة آخر عقبة أمام سيادة اليهود الكاملة على الشعب الفلسطيني في فلسطين من البحر الى النهر . هي مدفوعة بدون أدنى شك بهوس بناء حكم لاهوتي واستبدادي أكثر بشكل عام في إسرائيل . لا تهمها سمعة إسرائيل الدولية كدولة ديمقراطية ولا يهمها تقويض الديمقراطية الليبرالية ، ففي تاريخ الحركة الصهيونية ما يؤكد استعداده للتساوق مع السمة الشيطانية لمعاداة السامية على حساب العيش في ظل ديمقراطيات ليبرالية . سموتريتش وبن غفير وغوفشتاين وداغان ليسوا استثناء ، فقد سبقهم الى ذلك كثيرون من قادة الحركة . هذه القوى الفاشية ومعها ليكود نتنياهو وضعت بعد فوزها في الانتخابات الأخيرة للكنيست على جدول أعمالها من بين أمور كثيرة " تحرير " المستوطنين من الخضوع لحكم الجيش ويرون في ذلك تمييزا و إجحافا يضرب بعرض الحائط الوعد بأرض الميعاد .
نقل السيطرة على الضفة الغربية الى سلطة مدنية يتولاها وزير في حكومة الاحتلال الى جانب سلطة الجيش لا يجري بمعزل عن سياسة رسمية تتبناها الدولة بصفة سيادية ، فهو مؤشر واضح ليس على النوايا ، بل على خطة عمل يجري الإعداد لتنفيذها . فنتنياهو يكرر في رسائل متتالية باسم الحكومة التي شكلها مع أحزاب المستوطنين بأن حق تقرير المصير في هذه البلاد هو حصري لليهود ، واتفاقه مع الصهيونية الدينية يلزمه بذلك وهو اكثر تحديدا عندما يؤكد على ان "رئيس الوزراء سيعمل على صياغة وتعزيز سياسة تطبق بموجبها السيادة على يهودا والسامرة " . نتنياهو يذهب أبعد من ذلك عندما يؤكد مكتبه على لسان يوسي فوكس ، سكرتير الحكومة ، بأن " الأردن استولى بشكل غير قانوني على أراضي الضفة في نهاية الانتداب ، ولم يكن ذلك شرعيًا ، ولم يكن للأردن السيادة على تلك المناطق ، وأن هذه الأراضي هي مهد تاريخ الشعب اليهودي وجزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل " .
الصورة والحالة هذه أصبحت واضحة. وهنا يطرح السؤال نفسه ، ما حدود هذه الدولة وما هو نطاق سيادتها وأين موقع الشعب الفلسطيني في هذا كله . نحن هنا أما حد أعلى وحد أدنى . الحد الأعلى هو ما تطالب به وتدعو له القوى الفاشية والنازية الجديدة في اسرائيل ، دولة اسرائيل كما هو علمها من النهر الى البحر ، وموقع الفلسطينيين هنا إما مقيمون أو مهجرون الى الدول المجاورة ، كما يجاهر بذلك سموتريتش وبن غفير . أما الحد الأدنى ، وهو ما يخطط له نتنياهو وحزب الليكود ، فأوسع مساحة من الأرض بأقل عدد من السكان ، وفي ذلك يتقاطع نتنياهو وحزبه مع صفقة القرن ، التي صاغها بشكل مشترك مع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2020 . السيادة في البر والبحر والجو هي لدولة إسرائيل وللفلسطينيين " دولة معازل " على مقاس صفقة القرن وحسب .
ولتوضيح الصورة أكثر نعود بالذاكرة قليلا الى الوراء ونذكر بالحل ، الذي تم التوافق عليه بشكل مشترك بين حكومة اسرائيل برئاسة نتنياهو والادارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب . فقد وجه الرئيس ترامب في السادس والعشرين من كانون الثاني 2020 رسالة سرية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، أعلن فيها تأييده ضم أراضي فلسطينية في الضفة الغربية الى اسرائيل ، ليرد نتنياهو على الرسالة ترامب بأن إسرائيل ستمضي قدما في خطط فرض السيادة في الأيام القادمة وضم أكثر من 30 بالمئة من مساحة الضفة الغربية إلى إسرائيل ، وبما يشمل جميع المستوطنات وأراضي في محيطها وغور الأردن. وحدد يوم الأول من تموز 2020 للبدء في عملية الضم ، وعدل عن ذلك سريعا بمناورة سياسية جنى من خلالها عمليات تطبيع في اتفاقيات ابراهيمية مع عدد من الدول العربية برعاية أميركية .
وإذا أضفنا لهذه المساحة مساحة القدس خلف جدار الضم والتوسع العنصري فإن المساحة التي يريدها نتنياهو تصل الى 40 بالمئة من مساحة الضفة الغربية . وبعد يومين على تلك الرسالة أعلنت إدارة الرئيس الأميركي ، دونالد ترامب تفاصيل الشق السياسي لخطتها لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وذلك بعد نحو ثمانية أشهر على نشر واشنطن للشق الاقتصادي من الخطة ، الذي باع الفلسطينيين سمكا في بحر بقيمة خمسين مليار دولار لعشر سنوات . وتعرض الخطة على الفلسطينيين دولة بلا سيادة ، مقيدة بحدود الأمن الإسرائيلي ، منزوعة السلاح ، مقطعة الأوصال ، تتواصل أراضيها عبر جسور وأنفاق تحت إشراف أمني إسرائيلي ومشروطة باعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولة يهودية والقبول بالمسؤولية الأمنية الإسرائيلية وسيطرتها على المجال الجوي غرب نهر الأردن وغور الأردن سيبقى تحت السيادة الإسرائيلية المطلقة وإسرائيل ستكون مسؤولة عن الأمن في كل المعابر الدولية بما في ذلك معبر رفح ، والذي سيتم وضع ترتيبات خاصة به بين إسرائيل ومصر ، هذا الى جانب بناء مؤسسات شفافة ومحاربة الفساد وإصلاح النظام التعليمي ووقف التحريض على الكراهية ، وعندما يستوفي الجانب الفلسطيني تلك المعايير فإن الولايات المتحدة ستدعم قيام دولة فلسطينية . كما شددت الخطة على أنه لا ينبغي " اقتلاع الناس – عربًا أو يهودًا – من أراضيهم " ، على أساس أن ذلك سيقود إلى فوضى واضطرابات أهلية ، وطرحت في الوقت نفسه عملية ترانسفير ديمغرافي ، تشمل مدن وقرى منطقة المثلث مثل كفر قرع ، عرعرة ، باقة الغربية ، أم الفحم ، قلنسوة ، الطيبة ، كفر قاسم ، الطيرة ، كفر برا ، جلجولية ، أي نقل هذه البلدات التي يقطنها فلسطينيون ويحملون الجنسية الإسرائيلية الى الجانب الفلسطيني .
التسوية السياسية المتفق عليها بين نتنياهو وترامب لم تكن لتقف عند هذه الحدود ، فالقدس حسم أمرها وتبقى موحدة وعاصمة ابدية لدولة الاحتلال ، أما الفلسطينيون فيمكنهم بناء قدسهم في المناطق الواقعة اللى الشرق والشمال من الجدار ، بما في ذلك كفر عقب ، والقسم الشرقي من شعفاط ، وأبو ديس . وعلى كل حال لم تكن القدس وحدها خارج جدول أعمال تلك التسوية السياسية بل وكذلك قضية اللاجئين ، حيث تشدد الخطة على أن توقيع اتفاقية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية ينبغي أن يتضمن إنهاء أية مزاعم تاريخية أو حقوقية للفلسطينيين كحق العودة وانتهاء وضعية اللاجئ الفلسطيني كصفة قانونية دولية ، وحل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "الأونروا" وتفكيك مخيمات اللجوء في " دولة المعازل " الفلسطينية وبناء مناطق سكنية جديدة لسكانها .
هذه هي اللوحة السياسية كما أراها . فاليمين الحاكم في إسرائيل بقطبيه المتطرف والفاشي يسير بخطى ثابتة نحو الضم ، والخلاف بين القطبين هو خلاف حول الحدين ، الأدنى والأعلى . أما الخلاف بين الحكم والمعارضة في اسرائيل فهو خلاف على التوازنات الداخلية بين ديمقراطية ليبرالية لليهود لا تستثني التفوق اليهودي على ما عداه وبين ليبرالية أقل واستبداد أوسع في دولة لم تكمل فيها بعد الصورة التي رسمها لها وعد بلفور وصك الانتداب على فلسطين . وفي كلا الأمرين فللجانب الفلسطيني نصيب ، تماما كما هو الحال في حركة الاحتجاج على الانقلاب على النظام القضائي . هنا لا بد من القول بأن الحركة الصهيونية منذ نشأتها وحتى يومنا هذا لم تتعلم درسا واحدا مفيدا من التاريخ ، ومن كان هذا شأنه فهو يحكم على نفسه بإعادة التاريخ من جديد .