زلزال مخيم جنين.. هل سيقابله زلزال سياسي رسمي؟

حجم الخط

بقلم: فراس ياغي

ما بعد "مخيم جنين" أبعد بكثير مما قد يعتقد البعض، فما حدث ليس أسطورة فحسب بل كانت أربعين ساعة عملت على إنقاذ قضيتنا الوطنية من انحدارها نحو الهاوية… ألفين وأربعمائة دقيقة جسدت المستقبل المنظور وحددت طبيعة وشكل الصراع المستقبلي والذي سيكون شرسا وجذريا، فالتحولات الداخلية في الكيان الصهيوني عميقة جدا والدولة تتجه لتعرف نفسها "يهودية محافظة" مما يعني أنها لن تقبل "الأغيار" (الشعب الفلسطيني بكافة أطيافه ودياناته وطوائفه) إلا بمنظور الخدم لشعب الرب تفعل بهم ما تشاء، لتصل إلى أن الخيارات المطروحة أمام هؤلا "الأغيار"، إما خادم وإما عامل مطيع، وإما القتل، وإما الطرد والتهجير القسري والطوعي المنظم، أما على الجانب الفلسطيني فأصبح الشباب يَعُوونَ أن المقاومة المسلحة هي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين بعد فشل مشروع السلام وانتهاء عملية التفاوض وتدمير أي إمكانية للتوصل لحل الدولتين وفقا لموقف المجتمع الدولي.

تضاف لذلك تغييرات يشهدها العالم نحو التعددية القطبية وتغييرات إقليمية قادمة لا محالة بعد أفول النجم الساطع الأمريكي وكانعكاس لما يحدث على مستوى العالم، لكن المعضلة أن القادم لا يعني مطلقا أنه سيؤدي إلى إنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية، لأن طبيعة ما يجري ليس وفقا لمبادئ وأيديولوجيات بقدر ما هو صراع على النفوذ وعلى السوق الاقتصادي، أي أنه مرتبط بمفهوم المصالح رغم الحديث عن أهمية العودة الحقيقية للقانون الدولي الحاكم الذي يمنع التدخلات في شؤون الدول والذي كانت ولا زالت الولايات المتحدة والغرب لا يعيروه الانتباه، بل يستخدمونه وفقا لأجندتهم وتحت يافطات الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات لتصل الآن إلى ما يسمى مجتمع "الميم".

مُجمل ما يحدث بالضرورة سينعكس بقوة على القضية الفلسطينية، ورغم أن ما حدث ويحدث من تبريد على مختلف الجبهات إقليميا، إلا أن ذلك لم يؤدي مثلا لمصالحة فلسطينية أو حتى بالحد الأدنى الاتفاق الرسمي بين مختلف الفصائل على وحدة ميدانية لتعكس نفسها في مقاومة الاحتلال، وعدم وجود ذلك يتم استغلاله في تعميق الفجوات وزيادة حدة الانقسام بما يخدم الاحتلال وحكومة اليمين الجديد أولا وأخيرا، بل إن استمرار ذلك يعني أن هناك محاولات تجري لضرب حتى الوحدة الميدانية التي تشكلت بقرار قاعدي فصائلي وشعبي في تجاوز واضح لكل القيادات الرسمية، وهنا يُمثل "مخيم جنين" نموذج الضرورة لمواجهة الواقع المنقسم فلسطينيا والمُتشكل إسرائيليا بوجود أعتى حكومات التطرف اليمينية الصهيو- دينية، ولأن ما بعد "جنين" كنموذج يجب أن يؤدي موضوعيا لاتساعه وتطوره كحالة دائمة في مواجهة الاحتلال.

هنا يجب أن نُشير إلى أن ما يسمى ب "عملية السلام" قد انتهت في المدى المنظور والمتوسط نتيجة لسببين أساسيين يتمحوران حول طبيعة المجتمع الصهيوني، الأول جاء ميدانيا فلسطينيا غير رسمي يُمثل أكثر من 80% من الشعب الفلسطيني يرفضون الارتهان للدجل والمعايير المزدوجة الدولية ويرى في "أمريكا" هي الخصم وجاء ذلك طبعا عبر تجربة مريرة وطويلة ولكن لا يزال البعض الرسمي للأسف لم يغادر هذا المربع، أما الثاني فهو مرتبط بالواقع الداخلي الإسرائيلي الذي حسم أمره نحو لفظ كل شيء يتعلق بالسلام وجاء بخطة "الحسم" "السمورتيتشية"، سحق الفلسطيني في الضفة والقدس والسيطرة عبر الاستيطان والضم، لذلك فإن أي رهان على مفهوم "التفاوض" والسلام غير واقعي وغير ممكن ويصب في خانة المصالح الشرائحية والفردية ولا يخدم مطلقا القضية الفلسطينية كمفهوم وطني مستند للحرية والاستقلال وتقرير المصير وعودة اللاجئين وفقا لقرارات الشرعية الدولية.

ما بعد "مخيم جنين" يعني أن الخطوات العملية لتنفيذ خطط الإئتلاف اليميني الجديد الحاكم في إسرائيل قد بدأت، وهي حقيقة سياسية أكثر من كونها أمنية، لأن القيادة الأمنية في دولة إسرائيل تعلم يقيناً أن تدمير "مخيم جنين" لن يحقق الأمن للاحتلال والمستوطنين، وأن كل ما سيحدث سيؤدي لإضعاف دور السلطة الفلسطينية وهي لا تريد ذلك، في حين اليمين الحاكم يريد ذلك وبدأ أولى خطواته بعد أن رضخت مؤسسة الجيش وأصبحت غير قادرة الآن على مغادرة مربع المواجهة الحتمية القادمة اليومية والشاملة وبما يعني ذلك من تطور الحالة الاشتباكية لمستويات ستصل حتما لانتفاضة شعبية ثالثة ستتميز بأنها ستكون مسلحة وشرسة حيث سيواجه الفلسطيني بإمكانياته البسيطة ليس فقط جيش الإحتلال وإنما أيضا مليشيات المستوطنين الإرهابية المتشكلة على أرض الواقع بمسميات متعددة "تدفيع الثمن" "شبية التلال" "لاهافا" وغيرها، وهذا يستدعي من القيادة الرسمية الفلسطينية أن تَنفض كلَّ ما علق عليها من غبار الوعود والدجل الأمريكي والأمني الإسرائيلي ليس من حيث الموقف السياسي والبرنامج، بل أيضا من حيث طبيعة القيادة، فالمرحلة بحاجة لِ "أبو عمار" جديد عليه إجماع شعبي وقاعدي فتحاوي وفصائل وطنية وإسلامية، وأعتقد أن من يستطيع أن يُشكل هذه الحالة هو القائد الأسير "مروان البرغوثي" ومجموعة الشباب من كوادر التنظيم في الانتفاضة الأولى والثانية الذين حافظوا على رؤيتهم النضالية وعلى استعدادهم للتضحية، أي أن الرؤيا يجب أن تكون أجندتها على مستوى مقاوم لأجندة حكومة الثلاثي المتطرف "نتنياهو وسموتريتش وبن غفير".

بالطبع الدولة العميقة في إسرائيل متخوفة وتتصارع مع اليمين الجديد، وأصدق تعبير عن ذلك ما قاله "عاموس جلعاد" رئيس الدائرة الأمنية والعسكرية السابق في وزارة الدفاع الإسرائيلية "ما تقوم به إسرائيل على الجانب السياسي سيؤدي بنا إلى كارثة كبرى، لأننا نسمح للوزير "سموتريتش" ليكون قبطان السفينة وسنغرق بالتأكيد"، وهذا يؤكد أن واقع الأمر في دولة الاحتلال غير مهيأ للتعاطي معه كالسابق وأن الطريق لمواجهته فقط عبر نموذج "مخيم جنين" وهنا أقصد نموذج "المقاومة" بكافة أشكالها السياسية والدبلوماسية والقانونية والشعبية والمسلحة، وبحيث يؤدي ذلك لمغادرة مربع التردد والخوف والاعتماد على الكذب الأمريكي، فهذه الحكومة المصبوغة بلون المستوطنين حسمت أمرها نحو تقويض كل ما هو فلسطيني وعلى رأسها "السلطة الفلسطينية" وعملية "مخيم جنين" كانت فقط هي البداية.

ما جرى في "مخيم جنين" كان هو الواقع الحاسم، فما كان ممكنا قبله أصبح من سابع المستحيلات بعده، و"كتيبة جنين" و "شهداء الأقصى" و "القسام" وكل الحاضنة الشعبية للمقاومة فرضت أجندة العمل الوطني الموضوعي والقادر على جعل "القبطان" "سموتريش" يُغرق السفينة، وغير ذلك تحت مسميات الانتظار والتردي الإقليمي والداخلي ليس سوى نوع من "الرعب" الفردي القيادي الرسمي أو بسبب تجذر المصالح، لمن لا يستطيع أن يعود أو يكون في مربع الفعل "المقاوم"، فكل التبريرات السياسية لا تستطيع أن تقف برهة أمام طفل فلسطيني يرى بأم عينيه سياسة ممنهجة رسمية ومدموعة بالميزانيات والجيش وتعمل على فرض الأمر الواقع بفرض سيادة الاحتلال الإسرائيلي على الضفة الغربية، عدا عن أنّ خُطط تقسيم المسجد "الأقصى" مكانيا أصبحت قاب قوسين أو أدنى.

قلب الطاولة والعودة لبرنامج "فتح العرفاتي"، و"القطاع الغربي" أصبح مطلبا شعبيا وقاعديا فتحاويا، ومن يتأخر عن ذلك يريد من حيث يدري أو لا يدري أن يُدمر فتح أولا، وأن يتحول إلى وكيل أمني ثانيا، فكل الخيارات المستقبلية في المدَيَيّن القريب والمنظور تشير لبوصلة واحدة ووحيدة "بوصلة المقاومة" ولا شيء غيرها، ومن يريد بوصلة غيرها فهو لا يرى الواقع الجديد والوجه الحقيقي لدولة الاحتلال ولا يرى حتى صرخة والدة الشهيد "إياد الحلاق" المصاب بمرض "التوحد" حين تم تبرئة الجندي الذي قتله في المحكمة، بل أعمى البصر والبصيرة ولا يرى شعبه ككل، لذلك يبقى السؤال المهم في أذهان كل الشعب الفلسطيني، هل زلزال "مخيم جنين" سيحدث زلزالاً في السياسة والمواقف الرسمية؟!!!!