القرن الروسي الأخير.. بدأ بأوكرانيا وانتهى بها

تنزيل (10).jpg
حجم الخط

بقلم عريب الرنتاوي

 

 

 

لم يمضِ القرن الفائت سهلاً على روسيا، فقد شهد البلد الجالس فوق قارتين، ثلاثة تحولات كبرى، سيكون لكل واحدٍ منها ما بعده، إن على مستوى روسيا وجوارها، أو على المستوى الكوني.
الأول: الثورة الروسية – البلشفية، التي أطاحت بعرش القياصرة، وأخرجت روسيا من الحرب العالمية الأولى، بلا حمّص، بعد أن «تعفف» لينين عن فكرة تقاسم «تركة الرجل المريض»، وأبقى المهمة لسايكس وبيكو، وصولاً إلى صلح بريست ليتوفيسك مع الرباعي العالمي الأقوى آنذاك، وتخلي الروس عن مطالبهم في سان ريمو، بعد أن كانوا حصلوا على مناطق تمتد من أرمينيا إلى القسطنطينية وبعض أجزاء من العراق وإيران، بوصفهم إحدى القوى المنتصرة في الحرب الكونية الأولى، لتنهمك روسيا بعد ذلك، بوضع نهاية للمجاعة المروّعة وتمرد «الحرس الأبيض» الموالي للقيصر والذي سيأخذ شكل حربٍ أهليةٍ، ولتدخل طرفاً في حرب الانفصال الأوكرانية عن روسيا القيصرية، قبل أن تعلنها جمهورية سوفياتية في العام 1921.
الثاني: خسارة الحرب الباردة، بعد أربعة عقود من حالة صعود على رأس اتحاد سوفياتي غطى سدس الكرة الأرضية، ومعسكر اشتراكي – تحرري – غير منحاز، عابر لقارات العالم، أعقبت انتصاراً مدوياً في الحرب الكونية الثانية، أو كما يسميها الروس «الحرب الوطنية الكبرى»، والدخول بعد ذلك، في مرحلة التفكك المتسارع من الداخل، تحت ضربات «البيريسترويكا» و»الغلاسنوست»، وستكون أوكرانيا من أوائل الجمهوريات السوفياتية التي ستعلن استقلالها، في لحظة انتقال حرجة، بين غورباتشوف ويلتسين، شهدت أول محاولة انقلابية في البلاد، قَصفت خلالها الدبابات مبنى البرلمان (مجلس السوفيات)، والشمس في عزّ الظهيرة.
الثالث: الحرب في أوكرانيا وعليها، أو ما تسميها روسيا «العملية العسكرية الخاصة»، أملاً في الظاهر، في سدّ أخطر ثغرة يمكن لـ»الناتو» أن يتسلل من خلالها إلى عمق «الأمن القومي الروسي»، ورهاناً في الباطن، على تغيير قواعد «النظام العالمي»، وتسريع موت القديم وانبثاق الجديد. وهي الحرب المثقلة بالأسئلة والتساؤلات والحسابات الخاطئة، والتي ستقود إلى ثاني محاولة انقلابية في البلاد، في غضون ثلاثة عقود، حيث ستتصدر مليشيا «فاغنر» الإعلام، ويتحول يفغيني بريغوجين، «طبّاخ بوتين»، إلى شخصية عالمية، تجرّأ على إعلان الزحف على العاصمة.
هو قرن حافل بالثورات والحروب، الصعود والهبوط، الوحدة والانفصال، الموت جوعاً وملامسة ضفاف الازدهار، الانفتاح الداخلي وأشد ألوان القبضة الفولاذية. هو القرن الحافل بالشخصيات التي دخلت التاريخ، لا لتخرج منه، بل لتبقى فيه، من لينين وتروتسكي، إلى ستالين وخروتشوف، وانتهاء بفلاديمير بوتين، مروراً بغورباتشوف والماجن بوريس يلتسين و»عجائز الترويكا» وسنوات الركود البريجينفي. هو قرن حافل بالخلاصات الأكثر أهمية في فهم ماضي روسيا، حاضرها ومستقبلها، وبما يكفي للتأشير على ما يمكن أن تتطور إليه في قادمات السنين والعقود.
أول هذه الخلاصات، أن روسيا أكبر بكثير من أن يهزمها عدو خارجي، عصية على الغزاة، منذ نابليون بونابرت، وهي المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وهي أول الجيوش التي ستقتحم على أدولف هتلر معقله الأخير في الحرب الثانية، لكنها رغم ذلك، سرعان ما تهزم نفسها بنفسها، إن بفعل سوء أو تخلف في الأداء أو بفعل «عدو داخلي»، أو جراء تضافر الأمرين معاً. إنها الضريبة، أو قل «اللعنة»، التي ما زال يتعين على «ريف أوروبا» أن يدفعها ثمناً لتخلفه قرناً أو أكثر عن الثورات الصناعية الأولى.
ثاني هذه الخلاصات، أن روسيا ستلعب في كل مرحلة دوراً مؤسساً للنظام العالمي، نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى، عصبة الأمم، ونظام ما بعد الحرب الثانية، الأمم المتحدة و»نظام القطبين»، وسيكون لانفضاض الجمهوريات السوفياتية من حولها، وسنوات التفريط والتيه الأصعب، اليلتسينية، دوراً في تفكيك هذا النظام، وانتقال العالم إلى «الأحادية القطبية» وعصر الهيمنة الأميركية، نهاية التاريخ، قبل أن يحاول فلاديمير بوتين، إعادة تصحيح ما ظنه «خطأ التاريخ»، ويسعى إلى قلب الطاولة على رأس القطب الأوحد، وتسريع استيلاد نظام عالمي جديد، من البوابة الأوكرانية.
ثالث هذه الخلاصات، صعود روسيا وهبوطها، كان على الدوام، أمراً ذا صلة بجارتها «اللدودة» أوكرانيا، فالقرن الروسي الأخير، يبدأ بأوكرانيا وينتهي بها، وبصورة تذكرنا بنظرية «تلازم المسارَين السوري واللبناني» التي شاعت ذات يوم، رحلة صعود روسيا الشيوعية بدأت بضم أوكرانيا إلى الفضاء السوفياتي، وبانفصالها المبكر عنه، بدأت رحلة الهبوط، من حدودها كان يأتي التهديد المضمر لحلف «الناتو»، وعبر اجتياز هذه الحدود، كانت نيّة «القيصر الجديد»، تتجه لتغيير قواعد النظام العالمي.
رابع هذه الخلاصات، أن هذه البلاد، لم تمر طوال تاريخها بتجربة ديمقراطية راسخة ومتجذّرة، إذ على الرغم من طابعها الأوروبي الظاهر، إلا أنها وفقاً لوصف لينين لها، كانت بمثابة «ريف أوروبا»، والانتقال من قيصرية مستبدة إلى ستالينية حديدية، وصولاً إلى عصرنا الراهن، جاء من باب «تحصيل الحاصل»، لكأن الشطر الآسيوي من هذه البلاد منحها نمطاً من الحكم والإنتاج، ينتمي إلى ذاك الذي أطلق عليه كارل ماركس في منتصف القرن التاسع عشر اسم «نمط الإنتاج الآسيوي»، والذي شكل البنية التحتية لنمط الاستبداد الآسيوي، سيما في حضارات الأنهار التي مرّت بآسيا وأطراف من أفريقيا.
خامس هذه الخلاصات، تُظهر التجربة الروسية منذ «آل رومانوف»، أن «الفرد يلعب دوراً استثنائياً في صنع تاريخها»، وأن المؤسسية ما زالت تجربة غضّة، وبلا تقاليد عريقة ومتوارثة، وأن المؤسسات تدور في ركب الزعيم المطلق وتحوم حوله: جوزيف ستالين كان قدراً لا رادّ له، ومن عارضه طارده بالفأس إلى مكسيكو سيتي كما في حالة تروتسكي وعائلته، مروراً بخروتشوف و»ترويكا العجائز» التي لا تتجدد إلا بالوفاة، حتى يومنا الحاضر، وما ينسج من قصص حول زعامة بوتين وطريقة أدائه للحكم في بلاده.
سادس هذه الخلاصات، ويتعلق بالنزعة القومية – الأرثوذكسية الروسية، التي ثبت أنها أكثر تجذراً في عقول وضمائر الروس من أفكار الأممية البروليتارية والماركسية اللينينية، فالمقاتل (المواطن) أكثر شراسة في المعارك حين تدور على أرض وطنه روسيا وللدفاع عنها، وثمة إرث أدبي وتاريخي يوثق ملاحم البطولة في الدفاع عن الوطن، أما المعارك التي تدور خارج بلاده، فلم نقرأ أو نعرف شيئاً عن مثل هذه الملاحم، حتى في زمن صعود الشيوعية وانتصارات حركات التحرر.
سابع هذه الخلاصات، إن قانون «تفاوت النمو» يفعل فعله في التجربة الروسية المعاصرة، إذ أظهرت الحرب الأخيرة في أوكرانيا أن روسيا تعاني من فجوات هائلة بين قدراتها الإستراتيجية وقدراتها التكتيكية والتقليدية، وأن اعتماديتها هائلة على «مواردها وثرواتها الطبيعية»، شأنها في ذلك شأن دول عربية و»عالمثالثية» كثيرة، حتى أن بعض خصومها «اختزلها» ساخراً وشامتاً، بالقول: «إنها محطة كبيرة للوقود مسيّجة بالصواريخ النووية العابرة للقارات».
ما الذي تعنيه هذه المراجعة المختزلة لبعض فصول القرن الروسي الأخير؟ وأين ستقودنا خلاصاتنا في «مغامرة» فهم روسيا والعالم في مرحلة أوكرانيا وما بعدها؟
سنترك الحديث هنا لمصادر روسية (وبعضهم دبلوماسيون) موالية للكرملين، التي تقول: إن قرار الحرب كان عملياً قرار بوتين، لم تطلع عليه سوى حفنة قليلة من كبار المستشارين، وإنه بُني على نظرية «نصرت بالرعب» التي تعكس فجوة القوة الهائلة بين الطرفين، وإن اجتياح أوكرانيا ليس سوى «مسافة السكة»، وإن الغرب المنقسم على نفسه، والمحكوم بقيادة أميركية شائخة ومترددة، لن يفعل الكثير، وإن طلائع الجيوش الروسية ستستقبل بالورود في شوارع كييف وغيرها من المدن، وإن رأس زيلينسكي سيتدحرج تحت أقدام جنرالات جيشه بعد أيام أو أسابيع قليلة على بدء العملية، وإن حكماً موالياً لموسكو سينشأ في كييف بوصفه تحصيلاً حاصلاً.
كل هذا لم يحدث، حتى أن أحد الدبلوماسيين الروس، قال مشبهاً بوتين في أوكرانيا بصدام حسين في الكويت، فجوة القوة بين الفريقين، عوضتها التدخلات الدولية الكثيفة في الحالتين، والرهان على وجود فئات موالية ومتعاونة من الشعب والطبقة الحاكمة والجنرالات، سقط سقوطاً ذريعاً، وكما فرد نظام القطب الواحد عضلاته في الكويت قبل ثلث قرن، فإن النظام القديم يسعى إلى ترميم وجوده، والدفاع عن آخر معاقله في أوكرانيا، وأظهر الغرب قدرة عالية على التجسير ما بين ضفتَي الأطلسي، على الرغم من اختلاف المصالح وتناقضها في بعض الأحيان.
أين المؤسسات، مؤسسات صنع القرار والتخطيط الإستراتيجي؟ نسأل الدبلوماسي الروسي، فيجيب: بوتين لا يثق سوى بنفر محدود من المستشارين، شأنه في ذلك شأن صدام، الذي أبقى قرار اجتياح الكويت سراً على مختلف المؤسسات، ولم يطلع عليه سوى نفر من «الثقات». بغياب المؤسسة، يتضخم دور الفرد، وتتضخم معه جسامة الأخطاء والأخطار. أين الجيش الروسي، أحد أقوى جيوش العالم، وأكثرها عدداً وعتاداً؟ يجيب الدبلوماسي (قبل فتنة «فاغنر»): شكراً لله إذ وهبنا «فاغنر»، وإلا لكنا انكشفنا تماماً في باخموت (بالمناسبة باخموت تعرضت للحصار والمعارك مدة أطول من ستالينغراد)، وبعد أن وقعت الفتنة، أو لاحت نذرها، رأينا «القيصر» يلجأ لـ»كتائب أحمد الشيشاني» لتحل محلها. الجيش الروسي لا يقاتل بمعنويات عالية خارج بلاده، وثمة مشكلة في الحشد والتجنيد ورفع المعنويات، واعتمادية أكبر على «المرتزقة» وغير الروس. هذا الأداء الضعيف سيترك بصمات على صورة الزعيم القوي، وسيشجع طباخه على الحلم بالحلول محله سيداً في الكرملين، وزعيماً لروسيا.
الصواريخ بعيدة المدى والمسيّرات الإيرانية لن تعوض النقص في القوى البشرية الممسكة بالأرض، وكذلك التهديد باللجوء إلى القوة الإستراتيجية. ثمة حدود لاستخدام القوة، وهذا نقطة إضافية في سجل «سوء التقدير والاختيارات»، وثبت باعتراف بوتين أن موسكو لم تحسب الحساب لمثل هذه التطورات، والحرب من قبل ومن بعد، ليست «شعبية» في روسيا، ولم تنجح الخطابات التي عزفت على الوتر القومي (الروسي) والديني (الأرثوذكسي) في تغيير قناعات رجل الشارع العادي، وثمة ما يكفي من المؤشرات على أن الحرب في أوكرانيا، تعطي مفاعيل عكسية على صورة «القيصر» ومكانته.
قلنا: إن روسيا لن تهزم من الخارج، وهذا السيناريو لن يخطر ببال أشد خصومها عداوة، لكنها لن تربح الحرب في أوكرانيا، وربما تكون خسرتها منذ اليوم الذي بدأت فيه وحدات من الجيش الروسي تحصين العاصمة موسكو لوقف زحف «فاغنر». لكن «عوامل الداخل الروسي» هي ما يمكن أن تتسبب الخسارة، سيما أن الانتخابات الرئاسية على الأبواب (2024)، فإن وصلت روسيا إليها من دون مفاجآت وانقلابات في المشهد الداخلي، فإن فرص إجرائها بشكل نزيه وشفاف تبدو أقل من أي وقت مضى، وفرص فوز بوتين فيها، من دون طرق ملتوية، تبدو أصعب من قبل. كل الاحتمالات واردة، بما فيها انقلاب ثالث في ثلاثة عقود.