في لعبة توزيع الأدوار الأممية اعطي الدور القيادي إذن لفرنسا، في الدعوة الى متابعة الملف الفلسطيني الإسرائيلي بصورة موازية لحل الملف السوري، وإذ صدر الإعلان الفرنسي عن بدء هذا الحراك لتفعيل الموقف الدولي مقترناً بتوجيه الإنذار الى إسرائيل، بان البديل عن الفشل في وضع فكرة او الأدق قرار وخيار حل الدولتين موضع التطبيق بسبب معارضة إسرائيل، هو فرض هذا الحل بقوة الأمر الواقع أي الإجماع الدولي عبر الاعتراف بدولة فلسطين.
فإننا اليوم قد نكون بإزاء إعادة استكمال نفس الخطة او الهدف والمشروع الذي بدأه جورج بوش الأب وجيمس بيكر في مؤتمر مدريد العام 1991، وحيث كان الهدف إعادة ترتيب او إنشاء النظام الأمني الإقليمي الجديد في المنطقة.
إن التاريخ والأحداث لا تني تعيد تكرار نفسها، ولكن هذه المرة ليس بنفس الطريقة السابقة او الأولى.
وإذ يجد بنيامين نتنياهو نفسه في موقف اسحق شامير، وانعقد مؤتمر مدريد في ذروة الانتفاضة الأولى للفلسطينيين، كما تأتي الدعوة الى عقد مؤتمر الأمن الإقليمي في ذروة انتفاضة الفلسطينيين الراهنة.
فإن الفارق اليوم يكمن في تغير الموقف الدولي من إسرائيل التي أفشلت هذه الفرصة التاريخية في الماضي، كما في المفهوم المؤطر لرؤية اللاعبين الدوليين للهدف الرئيسي من عقد هذا المؤتمر، والدوافع الملحة لإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي دوافع تتجاوز الرغبة الأحادية في الماضي لتأطير وحدانية القيادة الأميركية الواحدة للعالم، وإنشاء ما يسمى آنذاك بالنظام العالمي الجديد مع انهيار الاتحاد السوفياتي بانتهاء الحرب الباردة.
لكن لئن كانت مناورة اسحق شامير في المرة الأولى والتي تقوم على مبدأ تخريب اللعبة من داخلها، هي المناورة التي انطوت على المأساة. فإن ما يبدو اليوم كخيار وحيد يفكر به نتنياهو بتكرار هذه المناورة أي الانحناء أمام العاصفة، ولكن العمل على تخريب اللعبة من الداخل إنما هو الموقف او التفكير الذي يبعث على الشعور بالرثاء والشفقة، من صبيانية وعبثية هذا التفكير إزاء وضع لا يبدو فيه العالم أكثر وعياً وإدراكا ويقظة وتنبها لهذه المحاولة، وإنما أكثر شعوراً بضغط مصالحه الملحة بإنهاء هذه اللعبة التي تطاولت أكثر من اللازم والتي اسمها النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
وقد بات ينظر إليها في جماع الوعي العالمي على أنها أصل الداء والدواء، المعدة او المعصرة التي ينشأ عنها كل الأزمات الأخرى في الشرق الأوسط . هذه لحظة اذن مغايرة او محايثة بالمجمل في الموقف الدولي تماماً كما هي لحظة مغايرة او محايثة بالمجمل في الشكل والمضمون، او كما المادة او العناصر التي تنطوي عليها انتفاضة الفلسطينيين الراهنة، والتي تحير الإسرائيليين كما الفلسطينيين انفسهم في تحليل محتواها الجديد وأدوات فعلها.
وهذا التحول المتوازي انما هو الذي يمثل الانعطافة الثورية او الراديكالية في الوضع العام. والذي يحدث اليوم هو القراءة الخاطئة والضحلة لدى القيادة والمستوى السياسي في إسرائيل، لما يمكن ان نسميه بالاتجاه الشامل لهذا التحول وانعكاس او تأثير ذلك على فرص نجاح او تحقيق المشروع الاستراتيجي الإسرائيلي، بتقويض حل الدولتين على المدى التاريخي مع الفلسطينيين.
ان الضربة القاتلة او الصادمة التي حلت بأحلام او مشروع بنيامين نتنياهو ومجمل المعسكر اليميني الصهيوني الأيدولوجي، إنما جاءت مما يمكن تسميته بالتخطيط لغير المتوقع، أو ما كان يسميه نابليون بالجزء الإلهي، ويطلق عليه الإسلام «من غير ما يحتسب».
حين كان يبدو في التحليل الخارجي أو السطحي في المظهر كما لو ان كل الظروف تعمل للدفع بالرياح في أشرعة هذا الحل النهائي، تصفية القضية الفلسطينية وإلغاء حل الدولتين، واجتثاث فكرة او مشروع إقامة الدولة الفلسطينية انطلاقا من الرهان على الفوضى التي تضرب العالم العربي، وعدم خروج هذا العالم العربي من فوضاه وحروبه حتى مئة عام. وبالتالي هيا وقد هبت ريحنا مرة أخرى أن نغتنم الفرصة السانحة بالتهام ما تبقى من الضفة، وبالمخاتلة كما القوة والقسوة معا. ما الذي اذا أيقظهم أي الفلسطينيين في الضفة الغربية؟ ومن أين جاء هذا الجيل الجديد العنصر الجديد الذي ظهر فجأة من خارج التحليل او التوقعات؟ وكيف استطاعوا الوصول الى باب العامود في القدس من قباطية وهم يحملون السلاح ؟ وهل الموقف يتطلب تقديرا جديدا في سياق هذه الانتفاضة؟ وما الذي ايقظ الفرنسيين والأوروبيين وكيف يتفق ان الأميركيين ينضمون الى عدوى هذه المقاطعة، ويخرجون قراراً بتمييز منتجات المستوطنات، وهو قرار اتخذ قبل عشرين عاماً، ويفعلونه الآن أسوة بقرار الاتحاد الأوروبي وسم المنتجات الصادرة من المستوطنات؟ .
أسئلة لا إجابات عليها في إسرائيل وإنما شعور بالصدمة والذهول والغضب، وهو رد فعل أدنى من درجة الإدراك العقلي الخالص او الوعي، وهو ما ميز رد الفعل الأولي لدى مؤسسة دولة بأكملها في إسرائيل، بعيد صدور الإعلان الفرنسي بتصريح وزير الخارجية الفرنسي التاريخي فابيوس بالرفض. ولكن الاستدراك بعد ذلك بصياغة موقف على طريقة «اللعم» أي لا ونعم. وكم كانت هذه «اللعم» الإسرائيلية الجديدة لحظة من الكشف حول ضعف وضآلة وانحشار الموقف والوضع الإسرائيلي في الزاوية.
لقد أوشكت الآن ان تسدل الستارة على لعبة استمرت زهاء ربع قرن من الزمان منذ عقد مؤتمر مدريد الأول، ولكن ما حدث هو أننا نجحنا او لنقل صمدنا في هذا الامتحان التاريخي العسير والشاق والصعب.
وان هذا الصمود كان وما يزال المحك التاريخي لإثبات حقيقتنا، نحن الشعب الفلسطيني العظيم الجدير بالحرية والتحرر من الاحتلال والخلاص، حين استطعنا البقاء ومواصلة القدرة على الطفو. وها نحن اليوم نقف أمام عتبة انتصارنا التاريخي حين يبدو أن عدونا هو الذي يوجد في أسوأ وضع من انشداد العزلة، وحين تبدو الحقيقة الوحيدة التي تؤطر الإجماع العالمي وخطاب العالم هي الدولة الفلسطينية.