د. مصطفى البرغوثي: مدرسة في الخطاب الإعلامي الفلسطيني

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم د. أحمد يوسف

 

تعود بداية معرفتي الشخصية بالدكتور مصطفى البرغوثي إلى العام 2002 بالعاصمة الأمريكية واشنطن، حيث التقيته بأحد الكنائس الشهيرة هناك، والمعروفة باسم (كاتدرائية واشنطن الوطنية).. كان د. مصطفى قادماً لإلقاء محاضرة عن القضية الفلسطينية. في الحقيقة، أبدع د. مصطفى في كلمته التي كانت باللغة الإنجليزية، وقد أجاد في عرض مظلوميتنا كفلسطينيين تحت الاحتلال.


كان جمهور الحضور غالبيته ليس عربياً، وربما كنت الفلسطيني الوحيد من ذوي التوجه الإسلامي الذي حضر اللقاء، وكان هناك أيضاً العديد من الشخصيات الأمريكية من أصول فلسطينية.


كنت أعرف د. مصطفي سابقاً من خلال وسائل الإعلام التي كنت اتابعها في أمريكا، بحكم عملي كمدير لمركز أبحاث مختص بالشأن الفلسطيني والإسلامي، وقد لفت انتباهي اسم د. مصطفي عبر تصريحاته المتميزة للفضائيات الغربية، مثل: (CNN) و(CBS) و(BBC)، وطريقة عرضه للموقف الفلسطيني وانتقاداته لانتهاكات الاحتلال كدولة مارقة تمارس التمييز العنصري (الأبارتايد) والتطهير العرقي.


كان ذلك اللقاء مساء يوم الاحد بالكنيسة المذكورة، وقد تحدث د. مصطفى عما يجري من مواجهات بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي وقطعان المستوطنين في مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي كانت تأخذ -أحياناً- طابع العمل المسلح، إلا أن الانحياز الدائم في وسائل الإعلام الغربية غالباً ما يُحمِّل الضحية -وهم الفلسطينيين- الاتهامات بالتطرف والإرهاب!!


بعد انتهاء اللقاء، ذهبت للدكتور مصطفي وعرَّفته بنفسي وشكرته لموقفه المنصف تجاه حركة حماس، وقدَّمت له بعض إصداراتي عن الحركة باللغتين العربية والإنجليزية.


مرت الأيام والسنين، لنلتقي مرة ثانية -وجهاً لوجه- عام 2006 على مائدة غداء في بيت د. احمد بحر؛ أحد قيادات حركة حماس والنائب الأول لرئيس المجلس التشريعي، وقد ذكرت للشخصيات الحمساوية المدعوة للحضور بأن د. مصطفى إنسان نزيه وصاحب رؤية وطنية ومواقفه منصفه لحركة حماس، وهذا ما عرفته عنه من خلال أحاديثه الخاصة عن الحركة في المحافل الإعلامية والمراكز البحثية في العاصمة الأمريكية.


التقينا بعد ذلك مرات عدة، وخاصة خلال عملنا في حكومة الوحدة الوطنية، حيث كان وزيراً للإعلام، واتذكر موقفه في أول جلسات الحكومة بالإصرار على أن يكون الخطاب الإعلامي هو صاحب المرجعية فيه، وأنه الناطق الإعلامي باسم الحكومة، ولن يسمح بأن يكون هناك شخص آخر ينطق باسمها غيره.


كان د. مصطفى واضحاً في موقفه، وهو السياسي المحنَّك وذو الدراية بفوضى الخطاب الإعلامي، الذي يغلب عليه التوجه الحزبي البعيد عن المهنية والسردية الوطنية، وقد نال د. مصطفى موافقة الجميع في حكومة الوحدة الوطنية.


طبعاً، بعد تقاعدي من الحكومة في يناير 2011، جمعني بالعزيز د. مصطفى عدة لقاءات في مدينة غزة؛ سواء في معهد بيت الحكمة أو في ندواته التي كانت تُنظِّمها حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية.


في العام 2012، التقينا أيضاً في مصر خلال لقاءات المصالحة الفلسطينية، وأيضا جمعنا لقاء آخر في العاصمة النرويجية أوسلو، حيث التقت قيادات إسلامية وأخرى غربية، وكانت القضية الفلسطينية وتحركات المصالحة وفرص اجتماع الشمل الفلسطيني ضمن محاور ذلك اللقاء.


في الحقيقة، إنَّ واحدة من ملاحظاتي على د. مصطفى انه يقود تياراً نخبوياً متميزاً بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني، إلا أنَّ من الملاحظ أن المبادرة كتيار لا يبدو في مشهديته السياسية وفعالياته النضالية الكثير من الأسماء القيادية البارزة غير د. مصطفى البرغوثي!! فهناك غياب واضح لعناوين قيادية أخرى.


نعم؛ د. مصطفى هو أيقونة نضالية وشخصية مركزية في العمل الكفاحي الفلسطيني، وهو مدرسة في الخطاب الإعلامي لا يُشقُّ له غبار، ولكنَّ هناك في المشهد الفلسطيني من يعترض على عقلية الفرد التي عليها قيادة التيار، وأن كانت الحقيقة -طبعاً- لا تختلف عن باقي الحالة الحزبية الفلسطينية عموماً.


البرغوثي مرشحاً للرئاسة!!
إنَّ واحدة من القضايا التي كان الكثير من الدبلوماسيين والباحثين والإعلاميين الغربيين يبحثون عن إجابة لها هي: أيهما المرشح الأوفر حظاً لخلافة الرئيس أبو مازن؟ ويأتي خلال النقاش اسم د. مصطفى، ويسألوننا عن موقف حماس والتيار الإسلامي منه؟ كنت دائما ًصريحا في إجاباتي: إنَّ د. مصطفى واحد من أفضل الشخصيات السياسية الوطنية الذي يُقدِّم السردية الفلسطينية والأفصح لساناً في التعبير الإعلامي عما لحق بنا من مظالم وحق شعبنا ومقاومتنا في الرد والدفاع عن أنفسنا، وهو شخص سياسي مخضرم لا غبار عليه وطنياً، وقد خبرناه جيداً، ولديه الأهليِّة لشغل منصب الرئيس، ولكنَّ هذا الموقع يتطلب الوصول إليه اجراء انتخابات عامة، وأنا حقيقة ينتابني الشك بأن د. مصطفى يمكن أن يفوز بالأغلبية؛ لأنَّ المنافسين له كثر، وسيعملون على تشويه صورته، باعتبار خلفيته اليسارية وكعضو سابق في حزب الشعب (الشيوعي)، وهذا ما سيحدُّ من فرص كسبه لأصوات الإسلاميين، وهم اليوم يُمثِّلون نسبة عالية داخل الشارع الفلسطيني المحافظ.. كنت أقول لهؤلاء السائلين مازحاً: حتى لو شاهد العامة د. مصطفى يُصلي بالمسجد الأقصى ومع الحجيج في مكة المكرمة ستبقى تلك "الخلفيِّة اليسارية" عقبة كأداة تطارده ويتعذر تجاوزها، إلا إذا قررت حركة حماس أن تضع ثقلها خلف د. مصطفى البرغوثي، كأفضل الخيارات الوطنية، وتمنحه بذلك صكَّ "البراءة والإيمان" من انتماءات سنوات المراهقة الشبابية، وهذه مسألة ربما من المبكر الآن الحديث عنها.


على أي حال، يبقى د. مصطفى البرغوثي (أبو ضياء) واحداً من أفضل السياسيين المخضرمين، الذي يمكنه أن يُقدِّم خطاباً (إعلامياً) للمشاهد الغربي أفضل من خطاب أيّ سياسي فلسطيني آخر؛ سواء أكان إسلامياً او علمانياً.
حقيقة، إنَّ د. مصطفى لا يتغيب عن متابعة أي فعل نضالي فلسطيني، وهو دائم المشاركة والظهور في الأنشطة المقاومة لبناء الجدار وفي التحركات اللاعنفية لمسيرات العودة، وأيضاً في المشاركة الميدانية التضامنية مع أهالينا في نابلس وجنين وترمسعيَّا والخليل والخان الأحمر وفي القدس والمسجد الأقصى.


ومن باب الأمانة، أقول: إنَّ د. مصطفى يعتبر سياسياً فلسطينياً متميزاً، وقد سجَّل حضوراً إعلامياً واسعاً، وشارك باكراً في الثورة الفلسطينية من خلال الحزب الشيوعي، وأسس حركة المبادرة الوطنية، وترشح لانتخابات الرئاسة عام 2005، وفاز في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، وتقدَّم اسمه كأحد أبرز الشخصيات التي أسهمت في تطوير نهج المقاومة الشعبية، وتنظيم حملة مقاومة جدار الفصل العنصري.


ولد د. مصطفى كامل البرغوثي في مدينة القدس عام 1954، وقد حصل على شهادة دكتور في الطب، وعلى شهادة عليا في الفلسفة من موسكو، وعلى شهادة الماجستير في الإدارة وبناء الأنظمة الإدارية من جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة الأميركية.


في عام 2002، استقال د. مصطفى من حزب الشعب الفلسطيني، وأسس مع د. حيدر عبد الشافي وبروفيسور إدوارد سعيد وخمسمئة شخصية فلسطينية أخرى "المبادرة الوطنية الفلسطينية"، ويتولى حالياً مهمة أمينها العام، وهي حركة سياسية اجتماعية ترى أنَّ الوحدة الوطنية "صمَّام الأمان الحامي لنضال الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في الحلِّ العادل".


لا غرو أن يتم ترشيح د. مصطفى البرغوثي لنيل جائزة نوبل للسلام، فهي استحقاق لا بدَّ أن يناله يوماً ما، تكريماً لجهوده وتحركاته التي اتسمت باللاعنف والفعالية النضالية في المشهد الفلسطيني المقاوم للاحتلال، والمطالب بحقه في تقرير المصير.