الحرب الاستباقية لن تقضي على معضلة الأنفاق

55
حجم الخط

في الأيام الأخيرة طرحت ثانية مسألة تهديد الانفاق من غزة، وفي الاساس ما الذي يتوجب عمله من اجل لإحباط التهديد النابع منها. أولا، سنتحدث قليلا عن تاريخها. الانفاق كمشكلة بدأت في الظهور بعد تنفيذ اتفاقات اوسلو في العام 1994. ومع خروج الجيش الاسرائيلي من أجزاء كبيرة من غزة واعادة انتشاره في قطاع ضيّق على حدود مصر. تجاوز سكان رفح والتنظيمات “الارهابية” الحدود عن طريق الانفاق بتعاون مثمر مع سكان سيناء. 
في اعقاب الانسحاب أحادي الجانب في العام 2005 اتسعت شبكة الانفاق هذه بصورة دراماتيكية، وأضيفت اليها شبكتان اضافيتان هما متاهة تحت ارضية متشعبة تحت القطاع، هدفها تمكين «حماس» من الصمود امام الجيش الاسرائيلي اذا حاول احتلال القطاع. وشبكة انفاق هجومية من تحت القطاع الى داخل اسرائيل. قبل حوالي سنة ونصف اكتشف خلال حرب «الجرف الصامد» حوالي 30 نفقا ويمكن التقدير أن الحديث يدور اليوم عن عشرات الانفاق الهجومية. 
كانت الانفاق معروفة كمشكلة قبل العملية. ففي سنة 2006 تم خطف جلعاد شاليت على يد قوة جاءت عبر نفق، وكما يبدو هناك اربعة انفاق تخترق الحدود تم اكتشافها قبل العملية. أحدها يمتد اكثر من كيلومتر داخل اسرائيل، حتى أن السكرتير العام للامم المتحدة قام بجولة في احد هذه الانفاق. لهذا لا يمكن الادعاء أنها فاجأت الجيش الاسرائيلي، رغم أنه يبدو أن ماهية التهديد وقوته لم يتم استيعابها أو فهمها كما يجب. 
من الممكن أن هذا هو السبب في أن الجيش الاسرائيلي لم يأتِ الى العملية في صيف 2014 وهو مستعد كما يجب للتعامل مع الانفاق. لم تكن لديه الوسائل المناسبة لاكتشافها والسيطرة عليها وتدميرها. ومع ذلك فان القرار الذي تم اتخاذه قبل وقت قصير من بداية العملية وتم تنفيذه بعد بضعة ايام من القيام بعملية مخصصة لتدمير الانفاق، كان قرارا صحيحا. كان يجب ألا يتم انهاء العملية بدون المس بصورة كبيرة بالانفاق التي كانت معروفة حتى لو أن تدميرها كان جزئيا. 
الآن حيث من الواضح أن «حماس» تقوم بتحديث شبكة الانفاق الهجومية، يطرح السؤال ما العمل، وكما قيل تسمع اقوال تدعو الى شن عملية لتدميرها. وهو ما يسمى في الادبيات «هجوم استباقي»، أي عملية هدفها ضرب العدو قبل أن يكون مستعدا بشكل جيد لتنفيذ مآربه. مسألة الحرب الاستباقية ليست مسألة جديدة. فهي تحلق في فضاء عملية اتخاذ القرارات في اسرائيل تقريبا منذ اقامتها. على الاقل هناك عملية كبيرة واحدة، حرب السويس في 1956، تم شنها كحرب استباقية خلال استغلال العملية البريطانية الفرنسية من اجل الحصول على غطاء دولي مريح. 
ما أقلق متخذي القرارات في حينه (في الاساس بن غوريون كرئيس للحكومة وكوزير دفاع وموشيه ديان كرئيس اركان) كان صفقة السلاح الكبيرة بين التشيك ومصر، التي كان تنفيذها سيعطي مصر قدرة كبيرة جدا على مهاجمة اسرائيل. من المقبول أن نفكر بأن حرب لبنان الاولى في العام 1982 يمكن ادراجها تحت هذا الاسم، أي الحرب الاستباقية، نظرا لأن مناحيم بيغن كرئيس للحكومة شعر بأن م.ت.ف تتعزز الى درجة أنها ستبادر الى شن حرب ضد اسرائيل. وستنضم اليها دول عربية اخرى. إن تدمير قوة م.ت.ف في لبنان كان من شأنه أن يمنع الحرب الكبرى.
 
السعي لهدوء والحفاظ على الاستعداد
إن من طبيعة الحروب الاستباقية أنها تصعب الامر على متخذي القرارات؛ لأنها حروب غير ملزمة حسب التعريف، حيث إن العدو لم يهاجم، ومن كان يعرف اذا كان سيهاجم أم لا. على متخذ القرارات أن يرسل الجنود ليقتلوا في ساحة الحرب على اساس امكانية لا يعرف أحد اذا كانت ستتحقق. الثمن يدفع فورا. في المقابل، في حين أن الامر الذي سيتم منعه كما يبدو يلفه ضباب المستقبل. 
في قاعدة النقاش المهني البارد الخالي من المشاعر يطرح السؤال كيف يتم استغلال الزمن بصورة أصوب. من الجانب الاول يصر مؤيدو هذا النهج على أنه على دولة اسرائيل كدولة كتب عليها ان تقف دائما على حد السيف، لفترة طويلة من الزمن، أن تحاول استغلال هذا السيف من حين الى آخر ولفترات متباعدة بقدر الامكان، وفي الاساس لأن فترات الهدوء تُمكن الدولة من التطور والتعزز – وكلما زادت هذه الفترات يكون ذلك افضل. حسب هذا الرأي فان المهمة الاساسية للحكومة هي خلق فترات هدوء طويلة قدر الامكان. وأن يتم استغلال هذه الفترات بصورة افضل من العدو، من اجل أن نكون اكثر قوة في الحرب القادمة. 
في مقابل هذا النهج يأتي الرأي الذي يقول إن على اسرائيل أن تختار وقت شن الحرب حين تكون افضليتها النسبية افضل، والعدو لم يصل بعد الى قمة قوته. كدولة صغيرة على متخذي القرارات اختيار الاوقات الافضل واستغلال افضليات ومزايا الجيش الاسرائيلي من اجل منع حدوث كارثة عندما يكون العدو مستعدا وأقوى منا. المشكلة الاساسية في هذه المقاربة هي الشرعنة – في العالم وداخل اسرائيل – التي من الصعب الحصول عليها عندما تشن دولة حربا استباقية بدون سبب ظاهر للعيان وبدون أن يسفكوا دمها أو يمسوا بها قبل ذلك. 
الآن لنعد الى قطاع غزة والانفاق في هذه الايام. بهدف النقاش نفرض أن الجيش الاسرائيلي مستعد الآن بصورة افضل للتعامل مع الانفاق، ولكن لنفرض ايضا بنفس القدرة من التأكد أن العدو في القطاع تحسن وحصل على قدرات اضافية، في الاساس في مجال اطلاق الصواريخ وفي الدفاع عن الخط الاول، خط مداخل الانفاق الهجومية. النتيجة هي أن عملية لتدمير الانفاق سينظر اليها من جوانب كثيرة كعملية «جرف صامد». الحديث عن عشرات القتلى في جانبنا وبضعة آلاف من القتلى في الجانب الفلسطيني. لكن في هذه المرة سيتم تدمير الانفاق نهائيا. من الواضح أن لا أحد في العالم، بما في ذلك الامم المتحدة التي ادانت مؤخرا حفر الانفاق، سيصادق ويتفهم عملية كهذه. اسرائيل ستتلقى  ادانات من كل صوب وستتضرر قدراتها لشن عمليات اكثر اهمية في المستقبل.
داخل اسرائيل سيتم سماع انتقادات أشد على «المغامرة» وعن الاستعدادات لشن عمليات كان بالامكان الامتناع عنها، والتي خلالها (تقريبا شهرين) اطلقت عشرات الصواريخ على اسرائيل (رغم أنه تم اسقاط اغلبها). 
اضافة الى ذلك حتى اذا تم تدمير كل الانفاق بصورة كاملة بفضل الوسائل التي طورها الجيش الاسرائيلي منذ الحرب السابقة (كان هذا افتراضا لغرض النقاش) فانه من المعقول أنه في أعقاب هذه العملية يمكن لـ «حماس» أن تقوم بحفر، حتى لو كان ذلك ببطء أكثر، انفاق اخرى. اذا كان هذا هو الوضع فما هو المنطق في عملية كهذه الآن؟. 
باختصار، عندما تقف اسئلة كهذه امام متخذي القرارات يتوجب التعمق في التفكير قبل اتخاذ القرار. اذا كنا نعرف كيف تبدأ العملية فان نهايتها لا تكون معروفة تماما. وعندما يكون على الكفة الاولى من الميزان موضوع حياة البشر والمكانة الدولية لاسرائيل، فانه يجب اتخاذ القرارات بعد أن يكون واضحا (بقدر ما يكون الوضوح ظاهرا لأن الواقع والمستقبل سيبقيان دائما ضبابيين) ما هي الفائدة الكبرى من العملية، ما هو ثمن التورط فيها وما هو الخطر الذي يكتنفها. صعبة هي حياة متخذ القرار، لكن من المحظور عليه أن يتحرك بناء على اعتبارات قريبة المدى أو بناء على التهجمات والشعارات.