منذ أن تشكلت حكومة نتنياهو آخر ثلاثة أيام في العام الماضي ووجه إسرائيل آخذ بالتغير نحو انحدار تترابط فيه كل جزئياتها منذ إعلان تلك الحكومة نيتها إحداث تغيير في المنظومة القضائية، ما تسبب بصدع بين كتلتين أخذ في التعمق وأثر على كل مناحي الدولة.
فالمجتمع يشهد انقساماً كبيراً، والاقتصاد في تراجع وشركات التكنولوجيا بدأت بالرحيل والفائدة في زيادة متتالية وقوة الردع تتآكل ووحدات من الجيش والطيران تهدد بالاستنكاف عن الخدمة، والعلاقة مع الولايات المتحدة تتراجع، ويتطور الانقسام نحو صدامات لم يكن ما حدث أول من أمس سوى بروفة صغيرة أمامها.
بداية شهر تشرين الأول القادم قد يتجدد الصدام بصورة لم تشهدها إسرائيل من قبل، وقد يتحقق الكابوس الذي حذر منه الكثيرون منذ البداية عن الحرب الأهلية هذا بعد مرحلة الهدوء المؤقتة مع دخول الكنيست عطلتها الصيفية لثلاثة أشهر ابتداء من بداية آب حتى بداية تشرين الأول. بعدها سيكون كل طرف قد أعاد استجماع قواه نحو الصدام الأوسع، بعد أن فشل الحوار بين الطرفين وعزم الائتلاف الحكومي على تنفيذ خطته بالتدريج، بدأها بإلغاء حجة المعقولية «والتي تعني صلاحية المحكمة بإلغاء قرارات حكومية لا تراها معقولة».
لماذا إذاً يتظاهر الإسرائيليون طالما جرت انتخابات ديمقراطية ونزيهة وشفافة؟ لماذا يحتجون وقد تشكلت حكومة مثلت الأغلبية الشعبية وفقاً للنتائج وتستند لأغلبية البرلمان؟ كيف يتظاهرون لوقف إجراءات وقرارات تتخذ وفقا للدستور الذي يخول الأغلبية البرلمانية تشريع ما تراه مناسبا كي يسهل عليها إدارة الدولة وفقا لبرنامجها الذي أعلنته أثناء الدعاية الانتخابية وهو ما أعطاه المواطن ثقته؟ أليس من حق حكومة الأغلبية وبرلمان الأغلبية أن تتخذ إجراءات تراها مناسبة؟ أليست هي حامية الشرعية الانتخابية؟
هنا كلمة السر التي لم يفهمها المجتمع العربي بعد والفلسطيني حديث التجربة وهي «العقد الاجتماعي» الأعلى من الانتخابات، فتلك وحدها لا تكفي ولا تخول أي برلمان أو حكومة بالمساس بالعقد الاجتماعي الذي توافق عليه المجتمع قبل فوزها. كانت التجربة لدى حركة الإخوان المسلمين في مصر وحديث الرئيس المرحوم محمد مرسي عن الشرعية التي لم تكن تفارق خطاباته، وكذلك حديث حركة حماس عن نفس الشرعية أي شرعية الصندوق ظناً منهم أنها تكفي لإعطاء صلاحية تغيير هوية المجتمع وتوافقاته التاريخية سواء لناحية تغيير دساتير وقوانين أو لناحية الشكل الاجتماعي المستمد من التراث التاريخي. وعلى سبيل المثال كان النشيد الوطني الفلسطيني يتلاشى ويتم انتقاد الدبكة الشعبية المتوارثة منذ آلاف السنين، والتي يرقص خلالها الفلسطينيون أثناء زفاف الإلهة عناة للإله بعل إله الخصاب لدى الكنعانيين، والكوفية الفلسطينية بألوانها الأبيض والأسود تعبيراً عن المجتمع الزراعي وعز الدين القسام لتستقر على رأس ياسر عرفات كامتداد تاريخي يعبر عن الهوية الفلسطينية الفلاحية جرى استبدالها.
في مصر مجتمع تطور وطوّر هويته على ضفاف النهر، وشكل إرثه التاريخي بتلك الثقافة، ولم يكن الشعب المصري يقبل هوية مختلفة يعبر عنها حتى في ملابسه الأقرب لهوية ونمط الخليج الصحراوي باسم الدين. هنا حدث الاصطدام، صحيح أن المجتمعات العربية لم تتقن ممارسة السياسة بعد باعتبار السياسة ليست وليدة المنطقة العربية، ولم تأت كحاجة اجتماعية فرضتها تطورات اجتماعية بل تم تقليدها في مجتمعات لم تغادر ثقافة القبيلة بعد. ومن هنا كان للقبيلة التي تستولي على الحكم بانقلاب مسلح أحياناً أو بانتخابات أن تغير هوية المجتمع، لأن العقد الاجتماعي الذي تحدث عنه فولتير غير قائم وغير موجود.
فما يحدث في تلك المنطقة هو عبارة عن صراعات قوى من يصل فيها للحكم يستبد بغيره وبالمجتمع، وينمّط المجتمع ويجعل من هويته الخاصة منهجاً تعليمياً ودراسياً تتلقنه الأجيال بالقوة .
أجرى الفلسطينيون انتخاباتهم قبل سبعة عشر عاماً ونصف، وكانت سبباً للانفجار بينهم على عكس ما يحدث أو ما توقعوه، حصل هذا لأنها جرت دون اتفاق بينهم أو معرفة الحدود الدنيا للعقد الاجتماعي، ولعدم ادراك حركة حماس المستجدة حينها أن هناك عقداً اجتماعياً سابقاً. فللحظة اعتقدت الحركة خطأ أن الشرعية الشعبية أو شرعية الصندوق تعطيها ما يكفي من الصلاحية لتغيير وجه المجتمع وهويته وتراثه وقوانينه، ورفع شعار «أسلمة المجتمع « كان يُفهم منه أن المقصود أخونته أو حمسنته بما لا يتوافق مع تراثه التاريخي.
الآن تتراجع مسألة المصالحة لكن بات واضحاً أن ممارسة السياسة لدى الفلسطينيين لا زالت في حدودها الدنيا ولم تتطور بعد. لا يتحدثون سوى عن الانتخابات كحل دون إدراك أن الانتخابات دون اتفاق على العقد الاجتماعي ولا على تسليم المعارضة حين تفوز بالتاريخ والتراث والنظام السياسي الاجتماعي القائم والمستمد من تراث سياسي واجتماعي جاء بالتراكم لقرون صنع فرادة الشخصية الفلسطينية وهويتها، وأن أي عملية قطع لهذا التراكم هي هزة لا تحتملها المجتمعات وهي مدعاة للصراعات ولتقسيم المجتمع وتفتيته، أمامنا المثال الإسرائيلي الصارخ الذي أثبت أن الانتخابات وحدها لا تكفي، يحدث ذلك حين تفوز القوى الدينية التي تحمل تصورات قطعية. ومن يتحكم الآن في إسرائيل هي قوى دينية وفازت بشرعية الصندوق.