فتنة "الجهل" المالكي: الشيعة متخاذلون والسُنّة متواطئون

حجم الخط

بقلم هشام عليوان

لا يشتم نوري المالكي (73 عاماً) الصحابة علناً إلا حين يكون خارج السلطة. حدث هذا بشكل فاضح عام 2015 لمّا كان العراق غارقاً في الدماء بسبب سياساته الطائفية الحمقاء، والتي سمحت لتنظيم داعش باحتلال الموصل ثاني أكبر مدينة في العراق عام 2014 ببضع مئات من المزوّدين بأسلحة فردية في مواجهة أكثر من 60 ألفاً من عناصر الجيش والأجهزة الأمنيّة، مدجّجين بالدبّابات والمصفّحات. سقط ثلث العراق، وقُتل الآلاف من المدنيين والجنود، لا سيّما في معسكر سبايكر. في تلك اللحظة، عندما كان العراقيون الشيعة الغاضبون يطالبون بمحاكمة المالكي، على سوء إدارته للبلاد، اتّهم الخليفة الثالث عثمان بن عفّان بحرق المصاحف التي كانت بيد الصحابة حتى لا تنكشف الشروح المكتوبة على هوامش تلك المصاحف، وفيها أسماء المنافقين كما يقول، زاعماً أنّ الحلف المتكوّن من وضّاع الحديث النبوي، (مزوّري الأحاديث)، مع مفسّري النصوص (فقهاء السُنّة)، قام باضطهاد الأمّة، وإشاعة أجواء الرعب. لكنّه قبل عامين فقط، من هذا التصريح، وفي أواخر ولايته الثانية، عام 2013، اعتبر المالكي أنّ شتم الصحابة يثير الفتنة بين المسلمين، تعليقاً على قيام ناشط شيعي بشتم بعض الصحابة. في العام الماضي، عندما ارتفعت آماله بالعودة إلى رئاسة الوزراء، طلب إلغاء الصفحات التي تستعمل اسمه في وسائل التواصل الاجتماعي، وفيها شتم الصحابة. لكنّه قبل أيام قليلة فقط، وبعد الانتباه إلى تفلّت الشارع الشيعي تدريجياً من سطوة الفصائل والقوى الشيعية، المنضوية تحت مظلّة "الإطار التنسيقي"، وخروج مرشّح "الإطار"، محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء الحالي، عن الإطار المرسوم له، اختار مناسبة شيعية خاصة، هي يوم الغدير، أو غدير خُمّ، كي يحرّك المياه الراكدة، ويغيّر الاتجاه الكامن تحتها.
 

المالكي، المريض نفسيّاً بالارتياب من كلّ شيء، يتوجّس من ردم الفجوة بين مكوّنات العراق الطائفية والعرقية، فراح يضرب ضرب عشواء، فأصاب الجميع بالصدمة والدهشة

النواصب وأهل السُّنّة
في غدير خُمّ، وهو مكان بين مكّة والمدينة، خطب الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد حجّة الوداع، في العام العاشر للهجرة، فقال للمسلمين: "من كنتُ مولاه فعليّ مولاه". فهم منها الشيعة تعييناً لعليّ خليفة للرسول بعد وفاته، وفهم منها أهل السُّنّة، تكريماً لعليّ وتحديداً لمكانته الكبرى في الإسلام. قال المالكي، وهو الأمين العامّ لحزب الدعوة الذي حكم العراق بعد سقوط صدّام حسين، ما يناهز عشرة أعوام، إنّ الشيطان غلب على المسلمين، أي الصحابة، فلم ينفّذوا وصيّة الرسول. وزاد أنّ المسلمين (يقصد أهل السُّنّة) سكتوا عن لعن عليّ على المنابر طوال 70 عاماً من حكم بني أميّة إلى أن جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز (مات مسموماً عام 101هـ/720م) فأوقف اللعن الذي كان كما يبدو سياسة الدولة القائمة. كلام المالكي يتضمّن جهلاً بالتاريخ أو تجاهلاً مقصوداً، لموقف أهل السُّنّة من هذه المسألة. فهم يصلّون على النبي وآله في كلّ صلاة: (اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم). فكيف يدعون لعليّ في الصلاة، ويلعنونه في خطب الجمعة، ويتصافحون بلعنه بعد انقضاء الصلاة؟ حتى إنّ بعض المعاصرين يُنكر الواقعة من أصلها، أي لعن عليّ على المنابر، ليس تبرئة لبني أميّة وحسب، بل لأنّهم لا يصدّقون أنّ أمراً كهذا يمكن أن يحدث، لعظم مكانة عليّ وبنيه، كما كلّ آل النبي، في عقول وقلوب كافّة المسلمين. فالخلط المقصود بين النواصب (من يناصبون آل النبيّ العداوة) وأهل السُّنّة، هي خدعة قديمة لا تنطلي على العقلاء. ثمّ عرّج المالكي على حادثة التحكيم في واقعة صفّين (37هـ/657م) بين جيشَي علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فلمّا بان ميل الكفّة إلى جيش عليّ، لجأ الصحابي عَمرو بن العاص إلى حيلة رفع المصحف على الرمح مطالباً بوقف القتال والاحتكام في حلّ النزاع. كان ابن العاص من أدهى دهاة العرب، وكان رفع المصحف خدعة، ونجحت خدعته في تفكيك جيش عليّ، بين مؤيّد للتحكيم ورافض له من حيث المبدأ، ثمّ بين رافض لنتائج التحكيم وخارج متمرّد على خلافة عليّ، فيما عُرف بالخوارج. هنا لا يكتفي المالكي بإظهار جهله حين يتعثّر بتلفّظ اسمَي الصحابيَّين عَمْرو بن العاص فيقول عُمَر بن العاص، وأبي موسى الأشعري الذي كان موفد عليّ في التحكيم، فيقول موسى الأشعري، بل إنّه يوزّع الألقاب المسيئة، فالأوّل خبيث لأنّه رفع المصحف، والثاني خائن لأنّه خان عليّاً فخلعه عن الخلافة في الحادثة المشهورة تاريخياً، بدل أن يدافع عن حقّه في الخلافة. أكثر ما يلفت الانتباه في التصريح الأخير للمالكي، ليس شتمه للصحابة وأهل السُّنّة وحسب، بل شتمه لشيعة عليّ، الذين وصفهم بأنّهم كانوا أسوأ أمّة، لأنّهم تخاذلوا عن نصرة الإمام عليّ، بل أجبروه على قبول التحكيم برفع السلاح عليه، ثمّ بتكفيره ومحاربته لأنّه قبِل بالتحكيم الذي أجبروه عليه. فالمسلمون بنظر المالكي بين فريقين: أمّة متواطئة (أهل السُّنّة) وأمّة متخاذلة (أهل الشيعة). لكن ما هو المغزى السياسي الراهن من استحضار فتنة التاريخ؟

شخصيّة قلقة ومتوجّسة
قد نجد بعض الإجابات في تشخيص الحالة المَرَضيّة لنوري المالكي، في تقرير السفير الأميركي في بغداد رايان كروكر Ryan Crocker بين عامَي 2007 و2009، وكان سفيراً في لبنان بين عامَي 1990 و1993. فكروكر أرسل برقية إلى وزارة الخارجية، بتاريخ 13 شباط 2009، وكشفها موقع ويكيليكس، وهي تحمل عنوان: "رئيس الوزراء المالكي تقوية المركز أو صعود الرجل القويّ؟PM Maliki: 

يبدو كروكر في برقيته السرّية، وكأنّه يقدّم تقويماً شاملاً لسلوكات رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، قبل مغادرة موقعه في العراق كسفير للولايات المتحدة. وهذا التقويم بالغ الأهمية لما يتضمّنه التقرير من انطباعات ومعلومات، ممّا يكشف دواخل شخصية المالكي، حوافزه، وهواجسه، كما يلقي الضوء على أسباب القبول الأميركي للمالكي على الرغم من كلّ مواقفه المتوتّرة مع خصومه من السُّنّة والشيعة، ونمط حكمه الذي يقلّد به حكم الرئيس السابق صدّام حسين.
نوري المالكي أبو إسراء، أو (جواد) الاسم الذي درج عليه في منفاه في إيران وسوريا، عاش حياة تخفٍّ واستتار، منذ اضطراره إلى الفرار من العراق عام 1979 بسبب إصدار الحكم بإعدام كلّ منتسب إلى حزب الدعوة، وكان انضمّ إلى الحزب المحظور في العراق في الستّينيّات عندما كان طالباً في جامعة بغداد. ولمّا كانت الاستخبارات العراقية تطارد المنشقّين في الخارج، فقد عاش المالكي حياة قلقة، تحفل بالشكوك في كلّ من المحيطين به، لا سيّما في سوريا التي أمضى فيها السنوات العشر الأخيرة قبل عودته إلى العراق، خشية الاختراق الأمني. وبالمقابل، كان عمله في المنفى متركّزاً في العمل الأمنيّ الذي دأبت عليه خلايا الدعوة في الداخل والخارج في محاولاتها المتكرّرة لاغتيال صدّام حسين وعدد من قيادات حزب البعث الحاكم خلال السبعينيّات والثمانينيّات، وكان مسؤولاً عن تفجير السفارة العراقية ببيروت عام 1981 بسيّارة انتحارية. هذه الحالة انسحبت مع المالكي حتى بعد وصوله إلى الحكم، عام 2006، بتوصية من الاستخبارات الأميركية، وتزكية من إيران. حَصَر دائرة صنع القرار في ولايتَيْه بين 2006 و2014 بحلقة ضيّقة من المستشارين المنتمين إلى حزب الدعوة، ومعهم مدير مكتبه الخاص ابنه أحمد.
انتُقد المالكي خلال أوّل سنتين من الحكم كرئيس للوزراء ما بين عامَي 2006 و2008، بالضعف وعدم الكفاية وقلّة الخبرة والجاهزية، لحكم بلد تتفاقم فيه أحداث العنف. وفي بداية عام 2009، مع ميل العراق إلى الاستقرار أكثر فأكثر، انتُقد المالكي من الجهات نفسها، أي السياسيين السُّنّة من عرب وكرد، كما من باقي مكوّنات الائتلاف الشيعي، بأنّه يصبو ليكون الرجل القويّ أو "صدّام حسين" جديداً، مستنسخاً النمط الاستبدادي التقليدي في العالم العربي. ففي ربيع وصيف عام 2008 هاجم من سمّاهم الخارجين على القانون في مدينة البصرة، ويقصد بهم أتباع مقتدى الصدر. وكان قبل ذلك، شنّ هجمات شرسة على معاقل السُّنّة في الشرق والشمال والغرب، التي كانت كذلك ملاذ مقاتلي المقاومة العراقية، فأرضى الأميركيين القلقين من تصاعد العمليات ضدّهم في ما كانوا يسمّونه مثلّث الموت السنّيّ، وحاول في الوقت نفسه احتكار السلطة في الوسط الشيعي من خلال تدمير قوات جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر.

لكنّ المالكي، المتوجّس غريزياً من البعثيين ومن السُّنّة عموماً، لم يكن يأمن للجيش العراقي الجديد، وفيه ضبّاط من الجيش السابق، وكان يخشى انقلاباً سنّياً، من قلب الجيش، وهذا ما كان يكرّره لدى لقائه مسؤولي السفارة الأميركية. والأسوأ من ذلك، أنّه أنشأ جيشه الخاص، وقوات نخبة أمنيّة خاصّة به، مع محقّقين تابعين له، وسجون سرّية، يزجّ فيها المعتقلين السُّنّة. وكلّ هذه التجاوزات لدولة القانون، مع أنّه يرأس ائتلاف دولة القانون في البرلمان، تدلّ على البارانويا (مرض الارتياب) التي يعاني منها المالكي، وذكرها السفير كروكر في برقيّته.
المالكي، المريض نفسيّاً بالارتياب من كلّ شيء، يتوجّس من ردم الفجوة بين مكوّنات العراق الطائفية والعرقية (سنّة وشيعة وأكراداً)، فراح يضرب ضرب عشواء، فأصاب الجميع بالصدمة والدهشة. هل فقَد (جواد) اتّزانه العقليّ أخيراً في خريف العمر؟