هارتس : الديمقراطية الإسرائيلية تنخر من الداخل

حجم الخط

بقلم: إيلانا هيمرمان

 

 



كنا عدة مئات من الإسرائيليين ذاهبين إلى قرية برقة الفلسطينية، التي تقع في شمال الضفة الغربية، من أجل الاحتجاج على شرعنة مستوطنة حومش والتنكيل اليومي للمستوطنين بسكان القرية. وصلنا في حافلات من أماكن مختلفة في البلاد. عندما كانت قافلة الحافلات على بعد 5 كم من القرية اقتربت منا من الخلف سيارة عسكرية، بصافرات عالية، ولحقت بالحافلات وطوقتها، ومنع الجنود الذين نزلوا منها السائقين من مواصلة السفر.
نزلنا من الحافلات، وبدأنا السير مشياً على الأقدام في الشارع الضيق الذي يوصل الى القرية – نساء ورجالا، شبابا وشيوخا، بعضنا في العقد الثامن أو التاسع من أعمارنا. قطعنا مسافة طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة عندما ظهرت مرة أخرى سيارات عسكرية وأغلقت الطريق. من كانوا يسيرون في المقدمة انعطفوا عنها الى الجوانب، وساروا في طرق ترابية بين الأشجار والاشواك وحقول الزيتون، وسار مئات المشاركين وراءهم. يصعدون ويهبطون في طرق وعرة. تخلف عدد غير قليل وراءنا ووجدوا صعوبة. ولكن مع ذلك صمموا وواصلوا السير. عندها سمعنا صوت الانفجارات الأولى للقنابل. وبعد لحظة، على اليمين وعلى اليسار، اندلعت ألسنة اللهب، واندفعت السنة الدخان، واحرق الغاز المسيل للدموع عيوننا وحناجرنا. حتى الآن أشعر في نفسي وعلى جسدي بالمفاجأة التي أصابتني عندما وقفت ونظرت الى النار المشتعلة والتي تتصاعد وتنتشر بسرعة بجانبي وخلفي وأمامي.
لكن هذا الوضع لم يكن مناسبا للتحديق والتساؤل. فسرعان ما استيقظت وانسحبت بذعر من بين السنة اللهب التي تقدمت نحوي والتي كانت تشق الطريق بسرعة بين الاشواك على سفح التلة، حيث كانت تبعد عني مترين أو ثلاث. خفتت النار وانطفأت مرة واحدة، واشتعلت ببطء شعلة أخرى فوقها. "تقدموا، بسرعة"، هكذا حثتنا أصوات من يسيرون في المقدمة، وهنا انفجرت قنبلة أخرى ومن كل الجهات اشتعلت النار وخبت واشتعل غيرها، وعندما انطفأت خلفت دخانا كثيفا يتصاعد منها، واكتست قطع كبيرة من الأراضي باللون الأسود بسرعة.
فقط قلائل منا وصلوا الى القرية. معظمنا رجعنا سيرا على الاقدام نشق الطريق بين بقايا الحرائق التي ما زالت مشتعلة وشاهدنا بحزن الأضرار الكبيرة التي لحقت بأراضي القرية في أعقاب مجيئنا، وشاهدنا الجنود المسلحين بالبنادق والقنابل الذين أغلقوا الطريق أمام رجال الإطفاء الفلسطينيين الذين تم استدعاؤهم الى المكان. غير بعيد من هناك على قمة تلة كان يمكن رؤية أسطح القرميد الحمراء ومنشآت اللهو والتسلية الملونة للأطفال في مستوطنة يعرف الشيطان فقط ما هي هذه المستوطنة الملعونة. حومش؟ توسيع سريع لها؟ في نهاية المطاف ما زالت هذه فقط مدرسة دينية، أليس كذلك؟
ملعونة، نعم. ملعونة هي وملعونة كل أخواتها، من جنوب الضفة وحتى شمالها. ولكن الملعونة اكثر منها باضعاف هي دولة إسرائيل التي ترعاها منذ عشرات السنين. دولة أصبحت، من ملجأ وبيت للاجئين اليهود من أوروبا، دولة عظمى عسكرية مسلحة وتتسلح بدون توقف بجميع الأدوات المدمرة وأدوات القتل في هذا العصر الحديث، بما في ذلك قوة نووية وقدرة تكنولوجية شيطانية. وبقوتها العظيمة هذه هي تدمر طوال هذه السنين حياة الكثيرين، داخلها وخارجها. دولة تعزز أكثر فاكثر قبضتها الحديدية على جيل وراء جيل من أبناء الشعب الفلسطيني الذي يعيش هنا. تزرع بين قراهم ومدنهم جيوبا استيطانية، وتغلق عليهم الطرق بوساطة الحواجز، وتوطن مواطنيها على أراضيهم، وتسمح لهم بالتسلح والانتظام في مليشيات ومجموعات منفلتة ومتوحشة، وتجعل جيشها يشرف على كل ذلك، جيلاً بعد جيل من الجنود الشباب، الذين يمتثلون بخضوع في البر والبحر والجو لهذه المهنة، التي أصبحت الآن تحت قيادة سياسية لفاشيين، حتى أصبحت الأمور السابقة هي ايديولوجيتهم العلنية.
الجنود الذين يمارسون هذه المهنة في هذه الأيام شاهدتهم عن قرب في عملهم على سفوح قرية برقة. هؤلاء الذين يدافعون عن المسيرات الى حومش هم الذين قاموا من خلال قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع بتوقيفنا ونحن في طريقنا نحو القرية للتضامن مع سكانها. وكل سلاحنا كان اللافتات والطبول ومكبرات الصوت. لم نعرض للخطر حياة أي أحد، ولم تكن ثمة حاجة لوقفنا، وبالتأكيد ليس بمثل هذا العنف. ولكن عنف الجنود استهدف تدمير المزيد من أراضي القرية، التي سبق للمستوطنين أن زرعوا فيها الدمار كل يوم، يقتلعون ويخربون ويهددون والآن يحرقون، على أمل أن يصاب السكان باليأس ويغادروا، مثل سكان عين سامية قبل شهرين تقريبا، أكثر مما استهدف المس بنا.
"يجب محو حوارة"، قال وزير يهودي في إسرائيل. في هذه الأثناء كان هناك المزيد من حوارة. وإحراق البيوت والسيارات أصبح أداة روتينية في يد المستوطنين. هم يخرجون من بيوتهم بدون إزعاج من أجل الانقضاض والتمادي وإحراق أحياء كاملة في قرى الضفة. امر لا يصدق، يهود ينفذون مذابح برعاية الجيش اليهودي والحكومة اليهودية.
في اليوم ذاته الذي شاهدنا فيه الجنود وهم ينفذون على سفوح برقة مذابح احراق صغيرة خاصة بهم كان يوم جمعة، 7/7، نهاية الأسبوع الذي في بدايته زرع جنود إسرائيليون آخرون دمارا كبيرا من الجو والبر في مخيم جنين، وضجت كل البلاد بتمجيدهم. فجنودنا الشجعان نجحوا في اختراق أزقة "عاصمة الإرهاب" وقتلوا 12 "مسلحاً" وجعلوا الآلاف يهربون. "يدنا ستصل اليهم في كل مكان، احياء أو امواتاً"، هكذا تفاخر زعماء الدولة عند كل عملية "كاسرة للتوازن". هذا هراء؛ لأن آخرين يقومون وسيقومون بعدهم. لا يوجد لهم أي خيار. فدولة إسرائيل وبحق خلقت لهم جهنم. جهنم التي مع مرور السنين، وهذه سنون كثيرة جدا، حاصرتهم بدون أي فائدة أو أمل. هذه هي السياسة لديهم ولا توجد سياسة أخرى.
في فيلم محمود بكري "جنين، جنين"، الذي تم تصويره في مخيم جنين قبل 21 سنة، قريبا من موعد انتهاء ما سمي عملية "الدرع الواقي"، وفقط مؤخرا منع مرة أخرى من العرض من قبل قاضي المحكمة العليا وبمصادقة متحمسة للمستشارة القانونية للحكومة، غالي بهراف ميارا، في هذا الفيلم يتم مقابلة أشخاص على خلفية مشاهد الدمار في المخيم. قال أحدهم إنه عند احتلال الضفة في 1967 كان طفلا عمره تسع سنوات، لكن الآن في نيسان 2002 أصبح عمره 44 سنة. وعلى مدى هذه السنين لم يكن لديه "يوم واحد جيد، يوم عادي واحد". لأن "الاحتلال"، قال، "ليس فقط الجنود الموجودين هنا. لا، الاحتلال هو التنمر والقمع والتدخل في كل شيء نفعله". لن تصدق، قال لمجري المقابلة معه، منعنا "الشاباك" حتى من الحصول على رخصة سياقة، بعد أن حقق حلمه وتعلم القيادة. وأضاف: "هنا أنا أعيش، هذه أرضي ولا يوجد لي أي مكان آخر أذهب اليه. لقد قاموا باقتلاعنا من قبل، اقتلعوا آباءنا. بصراحة، الى اين تريد منا الذهاب الآن؟".
شاهدناه في الفيلم وهو يدخل احدى الخيام الكثيرة التي أأقامتها الأمم المتحدة لسكان المخيم الذين هدمت بيوتهم، وهو يجر عربة أطفال فيها ابنه، وهو رضيع عمره سنتان تقريبا. "هذا الولد"، قال، "يريد مستقبلا افضل من مستقبلي". ولكنه طلب عبثا. لأن هذا الطفل، الذي أصبح عمره الآن 23 سنة، من شبه المؤكد أن واقعه سيئ جدا في هذه الاثناء. أي إذا كان لا يزال على قيد الحياة ولم يقتل. وإذا كان أقام عائلة في مخيم اللاجئين فان اولاده، الجيل الرابع للجوء والاحتلال، ينتظرهم مستقبل اسود مثل لون سحب الدخان الذي تصاعد امام ناظري بسبب الحرائق التي أشعلها الجنود في أراضي أبناء شعبه الذين يعيشون جنوبا من هناك.
هذه الكارثة، كارثتهم وكارثتنا، بحاجة الى احتجاج مضاد للانقلاب النظامي الذي وضعه في مكان رئيسي في أجندته. لأنه هو الذي أوصلنا الى هذه الأيام الفظيعة، لنكون رعايا لاشخاص مثل بن غفير وسموتريتش، ولحكومة، تستهدف القوانين التي تسعى الى سنها أولا وقبل كل شيء تخليد هذه الكارثة المتدحرجة، بشكل قاطع. بروحية خطوطها الرئيسية التي ينص أولها على أنه "للشعب اليهودي حق حصري غير قابل للاعتراض على كل ارض إسرائيل. ستعمل الحكومة على تطوير الاستيطان في كل ارض إسرائيل – الجليل، النقب، هضبة الجولان ويهودا والسامرة".
عندما مشينا في المسيرة وتم إيقافنا في يوم الجمعة ذاك كنا بالاجمال نحو 400 شخص. المتظاهرون في منتهى السبت التالي كانوا عشرات الآلاف، قوة كبيرة. لو أنهم شملوا في احتجاجهم الاحتجاج ضد الديكتاتورية العسكرية والمدنية العنيفة ضد ملايين الفلسطينيين لكان يمكن وبحق احداث تغيير مصيري في المعادلة، الذي "ذريعة المعقولية" و"فقرة الاستقواء" وحتى تشكيل لجنة تعيين القضاة، ليست سوى فقرة صغيرة فيها. الهيئات القضائية في إسرائيل لم تمنع فقط التدهور السياسي الذي أدى الى انتخاب الحكومة الحالية، بل قامت بشرعنتها وتواصل شرعنتها مرة تلو الأخرى باحكامها.
لماذا، إذاً، أيها المحتجون الشجعان، تكتفون بالاحتجاج ضد تدمير الديمقراطية على يد حكومة كهذه؟ لماذا لا تطالبون حتى باسقاطها؟ لأنه اذا كانت هناك تسويات معها – هناك خوف من حدوث ذلك – فهي ستواصل تعزيز الديكتاتورية العسكرية في الضفة الغربية ومهمة التطهير العرقي التي تحدث هناك. نعم، هذه الحكومة تم انتخابها في انتخابات ديمقراطية حرة. ولا توجد إشارة واضحة اكثر من أن الديمقراطية في إسرائيل، اذا كانت وبحق هكذا، في عشرات السنين الأخيرة بدأت تنخر من الداخل. ربما لن يكون هناك أي اصلاح اذا كان هذا الاحتجاج المدني الأكثر هجوما وتصميما في تاريخ الدولة لا يريد إلا إعادة تأسيسها من جديد. أي الاستمرار في تغذية هذا الكائن الحي غير الموجود: ديمقراطية مع احتلال، ديمقراطية لليهود فقط.

عن "هآرتس"